ليس هناك مقارنة بين جيل الأمس من المفكرين وجيل اليوم ولنا في الإمام ابن تيمية قدوة حسنة. هذا العالم الجهبذ الذي حلّق في جميع حقول المعرفة وجعلها منظومة واحدة واستطاع من خلال فكره واجتهاداته ان يتصدى للفلاسفة والملحدين في عصره بل وفي عصر غيره ونظره إلى كنوز المعرفة التي يحفل بها فكره نجدها حية معنا في هذا العصر، وقد سد فراغاً كبيراً في هذا الجانب وكلما فكر مفكر في هذا العصر في اجتهاد فقهي أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يجد الإجابة حاضرة عند هذا الإمام الجليل رحمه الله.
وقد تأملت كلاماً لابن تيمية رحمه الله في فتاوي ابن تيمية المجلد 28 ص 63 نصه ما يلي: فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا يروى «الله ينصر الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وان كانت مؤمنة، وحقيقة عندما يتمعن الإنسان في هذا الكلام يدرك تماماً مرونة العقل عند المفكر المسلم وسعيه إلى توظيف الحكمة التي حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم «الحكمة ضالة المؤمن» ويعطي أيضاً درساً للأمة أن العدل هو أساس كل شيء ويعطينا أيضاً ان الإسلام صالح لكل زمان ومكان من خلال ما يطرحه العلماء والذين يجعلون التأصيل منهجهم والحكمة مطلبهم وها هو الإمام ابن تيمية يسترسل في فكره ويقول في المجلد 28 الصفحة (146) وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وان لم تشترك في إثم ولهذا قيل: «إن الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة كذلك يقول ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقال أيضاً إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم» فالباغي يصرع في الدنيا وان كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة وذلك ان العدل نظام كل شيء: فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وان لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وان كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له والتعدي عليه في حقه.
ولعلك أدركت هذا الفكر النير الذي يتدفق من النبع الذي لا ينضب لعالمنا الجليل الإمام ابن تيمية ونحن في عصر العولمة الذي يحتاج لمثل هذه الرؤى والأفكار التي نفقدها عند الكثير من المثقفين في العالم العربي الذين سممت أفكارهم عند الحديث عن هذا العالم الجليل ولم يكلفوا أنفسهم عناء القراءة له ولو فعلوا لاستطاعوا أن يدركوا علمه الغزير واستشرافه للمستقبل الذي نحن في حاجة إليه الآن وخصوصاً عندما تطرح الكثير من النظريات الأيدلوجية مثل نظرية الديمقراطية التي تركز على مصالح الشعب بصرف النظر عن توافقها مع الدين أم لا إذ العدل هو مطلب لكل الشعوب والدين الإسلامي هو الدين الذي اكتملت فيه كل المقومات التي تخدم البشرية ويأتي في مقدمتها العدل كما قال الله سبحانه وتعالى:{إن الله أمرٍ بالعدل} كذلك قول الله تعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
|