لو تأمل الإنسان في كل أمر يمكن أن يؤلمه أو يخيفه أو يؤدي به للإعاقة أو الفناء. وأمضى ليالي طويلة يصنف فيها هذه العذابات التي تخطر على خياله لربما توصل إلى أقل من واحد في المائة مما ابتكرته الحضارات في طريقها الطويل لإنتاج العدوان. الشيء الذي لا يمكن أن يطوله الخيال هو أن العدالة عندما تصل الى طريق مسدود تصبح أفضل المواد التي تخلط لتبرر أساليبب التعذيب وطرائقه. حتى أضحت كل عملية تعذيب تنزل بالإنسان تجد ما يبررها في كتب العدالة والشرف.
عندما انطلقت محاكم التفتيش في أوروبا مع بداية القرن الثالث عشر لم تكن تحكم على الهراطقة بالحرق بل كانت توصى المحاكم المدنية بالحفاظ على روح المتهم وأعضائه. طبعا كانت هذه المحاكم تعرف أن توصيتها هذه لا تؤخذ في الاعتبار وكان هذا يسرها. إحقاقاً للعدالة كان لابد من اعتراف المتهم لكي ينزل به العقاب. بمجرد أن يرى المتهم الغرفة التي سوف يستجوب فيها يقر على الفور بما فعله وبما لم يفعله أبدا. وغرفة التعذيب هي عبارة عن قبو مظلم تحت الارض لا توجد فيها نوافذ. تتخلله (جوانب غائرة في الظلمة) تضاء بشموع راعشة تنزل الرهبة في قلوب المتهمين والقشعريرة في أجسادهم العارية. وهذا كله مجرد مكان للضيافة لأنه يصعب تعداد الأجهزة والمعدات التي تستخدم في تعذيب المتهمين ولكنها تتشابه في شيء واحد وهو أن من ذاقها يعني أنه دخل في نفق الموت الحتمي.
مع الأسف سادت الفظاعات التي كانت تمارسها محاكم التفتيش تاريخ التعذيب في العالم مما جعل النظم والشعوب الأخرى تنجو بفظاعاتها من سجلات التاريخ الشائع. ولكن لو قرأ أحدكم هذا الكتاب الذي بين يدي (تاريخ التعذيب لمؤلفه بريرنهاردت ج هروود ترجمة ممدوح عدوان) لعرف أن التعذب لم يجد له أي حدود تاريخية أو ثقافية تردعه أو تخفف منه.
بلغ التعذيب في عصر نيرون الذي نلتقي اسمه في كثير من الأشعار الحديثة درجة أصبح فيها مادة للمتعة والتسلية للمواطن الروماني. أما في الصين العريقة فإلى جانب التعذيب بالتنقيط هناك عدد كبير من أنواع التعذيب من بينها الاسفين وبدون شرح فنهاية الضحية هي أن تتحول قدماه إلى مادة هلامية ولك أن تتخيل الباقي. والهنود أصحاب الحكمة والتأمل لم ينسوا نصيبهم من الإسهام في عمليات التعذيب. فبعد صلب المتهم وجلده وإخراج بعض أحشائه من ظلماتها في البطن يترك قبل الموت بقليل حتى تكمل الطيور الجارحة وذباب الجيف المهمة بخبرتها الطويلة في هذا المضمار.
من منا لا يقدر إسهامات اليابانيين في دفع عجلة التقدم التكنولوجي في العالم ولكن إسهامهم في عمليات التعذيب وابتكار وسائله لا تقل عن إسهاماتهم التقنية. كان الجلادون اليابانيون يقلعون عيون ضحاياهم ثم يأتون بأطفال هؤلاء الضحايا ويقرصونهم ويعذبونهم ليجبروهم على البكاء بمرارة فيسمعهم ذووهم وهم ينادون طلباً لإنقاذهم. يستمر هذا حتى يموت الأطفال من شدة العذاب الجسدي ويموت الأب والأم من شدة البؤس والضنى.
عجزت الشعوب الأفريقية عن مجاراة الأوربيين واليابانين في مضمار الإبداع التكنولوجي وربما يكون سبب هذا العجز هو تفرغ عقول الأفارقة لإبداع وسائل التعذيب. من الصعب حصر أنواع ووسائل التعذيب التي ابتكرها كثير من القبائل الأفريقية ولكن يكفي أن نذكر أن لكل قبيلة وسيلتها المفضلة لمكافحة الزنا. فهناك درجات ومستويات كل واحدة لا تقل عن الأخرى فظاعة وقهرا. من مجموعة الطرق التي تستخدمها قبيلة الأيبو على سبيل المثال أن المتهمين بالزنا يطاف بهما في أحياء القرية لفضحهما والتشهير بهما وبعد طقس التشهير والفضح يقاد الضحيتان إلى الغابة وتلقى المرأة على الأرض ثم يلقي بعشيقها فوقها بالمقلوب بحث يكون رأسه عند رجليها ورجلاها عند رأسه ثم يوثقا في بعضهما ليحملا بعد ذلك ويصلبا في شجرة بحيث يكون رأس الرجل إلى أسفل. يتركان على هذه الحالة عرضة للجوع ولسع الحشرات حتى الموت. بالطبع يموت الرجل أولا بسبب الوضع فيكون عذاب المرأة أشد لأنها تعرف أنها مربوطة إلى جثة متفسخة لا يمكن الفكاك منها إلا بالموت.
لاشك أن كلا منا يعرف ما الذي نعنيه بقولنا متحضر ويعرف ما الذي نعنيه بقولنا همجي ولكن هذه التفرقة الواضحة والصريحة تتلاشى على الفور عندما يأتي الأمر إلى مسألة العدوان والتعذيب. يبدو أن هناك شيئاً متأصلا في روح الإنسان يدفعه دائما لتعذيب أخيه الإنسان (بل وتعذيب نفسه) ومعرفة هذا لن تكتمل حتى نقرأ شيئاً عن الأنواع الأخرى مثل التعذيب الطوعي والتعذيب الجنسي والتعذيب الديني والتعذيب الاقتصادي.. هذا الأمر نتركه ليوم السبت القادم
|