أجمع الراصدون والمؤرخون للحضارات أنها لاتستوي على سوقها، ولا تؤتي أكلها إلا بالإيمان، والاعتزاز، والصدق، والصدع بالحق، والتفقه، والاجتهاد، وتحرير المفاهيم، وتحديد المقتضيات، والتفريق بين الثوابت والمتغيرات، والدخول فيها كافة.
وعلماء الأصول الذين يستنبطون قواعد التعامل مع وثائق الحضارة النصية، يحددون القطعيات والاحتماليات، ومجال الاجتهاد، والنصوص التي لا اجتهاد معها، والمفكرون المنتمون يعرفون الفوارق والقواسم المشتركة بين حضارة وأخرى، ويتفادون مسخ الذات والتلقي عن يد صاغرة، وأي خلط بين الثوابت والمتغيرات، أو بين القطعيات والاحتماليات، أو بين الحديات واللاحديات، يسهم في مسخ الحضارة وإذابة كيانها، وذلك شأن الشكوكيين والمأزومين والمتعالمين، ممن تعيش حضارتهم ريبة في صدورهم، وليس ببعيد وجود المرتابين في هذا العصر الموبوء، وهم قد وجدوا في عصر النبوة، حتى قال الله فيهم: {لّوً خّرّجٍوا فٌيكٍم مَّا زّادٍوكٍمً إلاَّ خّبّالاْ }
والخطاب الفكري المعاش: إما أن يكون حدياً صارم الحدية، فيما هو احتمالي، أو مائعا منفلتاً، فيما هو قطعي الحدية، والحضارة أيُّ حضارة مجموعة عوالم، تشكل منظومة من القول والفعل والترك، فإذا استطاع حملتها أن يعطوا كل مجموعة ما تقتضيه، استوفت جلالها وجمالها، وتمكنت من الرسوخ والتجذر والسموق والندية، وإلا تحولت إلى جذاذات مبعثرة، تذروها الرياح، وكل حضارة مجموعة من العرى المتماسكة، لاتنتقض في لحظة واحدة، ولكنها تتفلت عروة عروة، بتخاذل أبنائها وضربات أعدائها.
والفكر والعلم والثقافة والدساتير والأنظمة والفن والنقد وكافة الظواهر الاجتماعية والنفسية وسائر الأوضاع الحسية والمعنوية مفردات تتشكل منها الحضارات، وكل مفردة لها أهل ذكر يحرسونها، ويرعونها حق رعايتها، ويقولون فيها أو عنها قولاً سديداً، أو يفرطون فيها، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويلي أمرها زعانف لا تبقي ولا تذر، وفي النهاية فكل طائفة تتفقه فيما تجد نفسها من علم أو فن، وتركيز حديثنا عن «النقد» و(النقاد)، بوصفهما من اولويات الحضارة ومرتكزاتها ومنطلقاتها، ولما آلت إليه قضايا الأدب في ظل التحولات «الأيديولوجية» والفنية والتعالق غير السديد وغير الرشيد مع المدنيات المهيمنة، والمتابع لهذه المفردة من مفردات «الحضارة الإسلامية»، ينتابه الخوف، لأنه يتجرع مرارة الفوضى المستحكمة، ويتعثر بأشلاء مثمنات فكرية وفنية على يد متقولين بغير علم، ولو تركت المشاهد على ما هي عليه، لضاع الفن القولي الجميل باسم مشروعية الحوار والحرية، والعبثية والغثائية والرفض لايمكن أن تُشكل رؤية سليمة لأي مشروع حضاري، لا على مستوى الفكر، ولا على أي مستوى دون ذلك، وبعض المتقحمين باسم حرية الحوار ونسبية الحقيقة وحتمية التسامح يرى أنه إذا كان الوعاظ محمَّلين بالحقائق فإنه محمل بالشك والتساؤل، او كما أُثر عنه وتلك المقولة بقية من فلول «الوجودية»، التي عكرت صفو الفن والحياة معاً، ثم عصفت بها رياح التغيير، وليست بقية الله، ومن قال بها، فهو كهفي يحتفظ بورقه، وقد تتضوع هذه المقولة بنكهة «معرِّية» تحمل السمة، ولا تنطوي على الاقتدار، وعلى ساقة «المعريين» و«الوجوديين» جاء «المستغربون» و«الفرانكفونيون» و«المتأمركون» و«المتعلمنون» و«المتعولمون» بغير هدى ولا تأصيل، يقولون بمثل ما يقول به أصحاب الحضارات المادية دون وعي بالفوارق، ظناً منهم أن ما يقولونه ابتدار ومبادرة، لم يُسبقوا إليه، وكل ما يتداولونه فيما بينهم من تمرد وشك وفوضى ورفض مررنا بسباطته متلثمين منتعلين اتقاء ما يتصاعد منه من شك وارتياب، ومن نقب عنه، وجده ثاوياً في أرض المستشرقين.
ورسيس «السريالية» و«الدادية» و«المستقبلية» و«الوجودية» وما سبقها أو واكبها أو خلفها من مسميات لما يزل بقية في أيدي المستفزين وحذاق البهلوة، الذين ينقبون عن حشف هنا أو سوء كيل هناك، ليعيدوا صياغته، ويتقحموا به المشاهد، والمؤذي أنهم يفيضون به على سماعين ذوي مسغبة او متربة، يفغرون أفواههم انبهاراً واندهاشاً، معبرين عن ذلك بالمكاء والتصدية، ومن ليست له دراية بتلاحق المذاهب، ومقولات المستشرقين عن مفردات الحضارة ورجالاتها، وترديد من لحق بهم من الظلاميين، يعد ما يقوله مثل هؤلاء من التجليات، وما يأخذ به اولئك من تلك المذاهب الوضعية المادية يردي الإبداع الشعري والسردي والعمليات النقدية، لأنه أخذ على ضعف، كالضغث على الإبالة، ولو أنهم إذ جنحوا إلى الاستغراب توفروا على ملكات وإمكانيات توفر عليها من قبلهم أمثال «طه حسين»، و«أحمد أمين»، و«هيكل» و«زكي محمود»، و«مبارك»، لكان في ذلك بعض العزاء، ومما تتأذى به المشاهد صلف المكابرين المقوين من صد متعمد عن سبيل الفن الاصيل، بحيث يشرعنون للرديء من القول، وللمنحرف من الأفكار، وللساقط من السلوكيات، ومع حداثة مشهدنا المحلي، فقد مرت به على عجل فلول الحداثة والبنيوية والتفكيكية والتحويلية، ومن قبلها تداول البعض مصطلحات لا حصر لها، وكلها اقتيدت على أيدي جالبيها الى مزبلة التاريخ الأدبي، مصحوبة بما أهدر من جهد ووقت ومال، ولما يزل الذواقون يتحرفون لمذاهب مماثلة، ولما تزل الغوغاء متذيلة وراء المتذيلين.
والنقد المواطئ للضعفاء والمتمردين يزيد ارتكاس الفن في درك التخلف، وهو نقد بالتجوز، ومثلما يقال عن النثر: بأنه شعر، وعن الكلام الشائع المبتذل: بأنه سرد فني، يقال عن المجاملات والانطباعات: بأنها نقد أصيل، والساحة تفيض بالأدعياء والفارغين والمغثين، وقليل من المتميزين.
ولو سألت بعض المتصدرين للمشاهد النقدية، أسئلة أولية:
** ما النقد؟
** ما وظائفه؟
** ما ثقافة الناقد؟
** ما آلياته؟
ولو تجاوزت ذلك قليلاً بسؤال عن محطاته التاريخية مثل: كيف بدأ النقد؟ وكيف اتخذ طريقه إلى الاكتمال؟ وكيف تقلب في أعطاف المعارف والعلوم والثقافات؟ ولو تقدمت خطوات أبعد، وسألت عن الفرق بين مذاهب النقد واتجاهاته ورموزه وجغرافياته، ولو أبعدت النجْعة، واستطلعت الرأي عن الآليات التي تُخترق بها أجواء النصوص، من نحو وصرف وبلاغة ولغة وتفكيك، وعن المنهجيات من لغويات وفنيات ودلاليات، وعن ماذا يخص النقد العربي القديم والحديث وسائر الاتجاهات والمذاهب النقدية، لو فعلت شيئاً من هذا، لما عاد لك الصوت بجواب جامع مانع، ومع هذا الخواء الفاضح ستجد متعالمين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، والمشهد النقدي عربياً أو محلياً لا يستقيم أمره إذا تسيده متذوقون يتخطفون ما يتساقط من ورق المصطلحات الغربية.
ومثلما نتأذى من المتعالين في مشاهد الأدب، نعتز بكفاءات علمية وثقافية وأدبية على جانب من الخلق الكريم، والمعرفة العميقة الشاملة المتنوعة، والتوازن والاتزان، ولكنها فئة قليلة، تكاد تكون غريبة الوجه واليد واللسان، وقد تغلب بإذن الله فئات كبيرة، ومثلما نجد الإفلاس والإسفاف في مشاهد الأدب، نجدها كذلك في مواقع كثيرة من مفردات الحضارة، فنجد من يقول عن الدين والفكر والفلسفة والحرية والحقوق، وعن المرأة والثقافة، وعن السياسة والاجتماع والاقتصاد بغير علم، ونجد من يصدقهم، ويصغي اليهم، وأنفسنا تذهب حسرات على الفن الرفيع الذي تسور محاريبه من لا يحسنون تذوقه، فضلاً عن تفكيكه واستكناهه وإعادة بنائه، ممن هم مجهولو الذات والحال، والإشكالية ان يتمكنوا من تصدر المشاهد، والنفاذ عبر الوسائل، لإفساد الفن بعد إصلاحه، وما يلحق الفن من إفساد يطال بناءه اللغوي، وشكله الفني، ومنطوياته الدلالية، وما من ضياع وضلال يعتري الأمة، إلا ويكون على المبدعين والنقاد والمفكرين كفل منه، فهم إما حماة وإما جناة، وكلما ظهر الفساد في عوالم الكلمة استفحل في كل العوالم، ففي البدء كانت الكلمة، وأول اتصال بين السماء والأرض كان أمراً بالقراءة، وتنبيهاً بأهمية القلم الذي علم الله به الإنسان مالم يعلم، وما المذاهب السياسية الثورية الدكتاتورية الدموية من «نازية» و«فاشية» و«ماركسية» إلا ربيبة الفكر وناتج الفن، وما طرح «ماركس» شيوعيته إلا بعد أن قرأ الطارف والتليد في مكتبات العالم، والنقد بوصفه المعقب لحكم الإبداع: موهبة، ومعرفة، ودربة، واقتدار، وموقف، وثقافة، ووعي، وهم، ووسيط، وفاحص، ومصحح، ثم حاكم بالعدل، بعد عرضه على ضوابط الفن، ونظام اللغة، وتناسق الجمال، وقيم الحضارة، ليقول في النهاية كلمة الفصل، لاينفعل، ولا يفتعل، ولا يماري، ولا يجامل، ولا يكاثر بالتملق والكذب، والنقد بهذه المهمات الجسام رسالة، والرسالة تتطلب معرفة وموقفاً ونزاهة، والذين يمارسون النقد أو بعضهم على الأقل تتخلف عندهم بعض شروط الأهلية، أو يفقدون أمانة الأداء، وعند تخلف شيء منها، يمتد أثرهم السيئ الى المتلقي، فالفكر كالجسم، ينمو مما يتلقاه من جيد القول أو رديئه، فإذا نسجت الأفكار من آراء وتصورات منحرفة أو ساقطة أو متسطحة أو فجة، أصيبت الأمة بقيمها الحضارية، وإذا نسجت خلايا الأجسام من أغذية فاسدة، أصيبت الامة باعتلال أفرادها، وإذا كانت الأمم المتحضرة تنشئ المؤسسات لحماية البيئة، وتقيم المراقبة الصحية على المشروبات والمأكولات فإنها ملزمة بإنشاء مؤسسات لحماية الأفكار والسلوكيات من التلوث والانحراف، والدولة الإسلامية حين تنشئ وزارة للدعوة والإرشاد، أو هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إدارة لمراقبة المطبوعات فإنما تمارس حقاً حضارياً، سبقت به دول العالم المتحضر، والمتمردون لوجه الشيطان، لا يفرقون بين السلطة المشروعة والتسلط المقيت، ولا بين الحرية المنضبطة والفوضى المؤذية، والناقد الأدبي بقدر اهتمامه بحماية جناب الأدب من أن يتقحم سوحه مبتدئ لا يعرف ضوابط الفن أو جاهل لا يجود نظام اللغة، او منحرف لا يستبرئ لعقيدته، أو ساقط لايستر ما بلي به من قاذورات، يكون أهلاً لهذه الرسالة الجسيمة، والمؤلم حقاً أن طائفة من النقاد يفقدون الأهلية المعرفية والموقف الأخلاقي معاً، ومن ثم يزيدون في الارتكاس الدلالي والانتكاس الفني، ولأن الناقد بمثابة الرائد، والرائد لا يكذب أهله فإن مسؤوليته تتضاعف في الأزمنة الرديئة، ذلك أن المتلقي المتذوق يستشرف رؤية النقاد، ويتقبلها بقبول حسن، والنقاد المعاصرون الذين ينطلقون من حرية التعبير والتفكير والحوار ويعودون إليها، ويعوّلون على مشروعيتها، لا يعرفون أولا يعترفون بحدودها وضوابطها، والذين يتغنون بها يطلقون للغرائز العنان، يؤلهون الهوى، ويفوضون للعقل، وهم بهذا التسليم المطلق يذبحون الحرية من الوريد الى الوريد، فالحرية الإنسانية لاتتحقق بفعل الممكن، وإنما تتحقق بامتثال المشروع، والكف عن المحظور، والرد الى الله والرسول، ولا أستبعد أن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، وأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان بدافع الظلم والجهل، هي أمانة العقل ومسؤولية التكليف، وما سمي العقل عقلاً، إلا لأنه إلزام والتزام، وتلك حدود الحرية التي نومئ إليها، ونستدعيها كلما حزبنا أمر، والنقاد الزائفون والمزيِّفون يريدونها «ميكافيلية»، والنقد الأصيل المؤصل لسائر القيم ينهض على ثلاث دعائم: الذوق والمعرفة والمصداقية، وتتنازعه اتجاهات ثلاثة: القيم المعرفية، والقيم الأخلاقية، والقيم الجمالية، والمتفلتون على الضوابط هم المتسيدون، ولأن الناس لا يصلحون بالفوضى، فإنهم لا ينضبطون بسيادة الجهلة، ولا بهيمنة المراهقة الفكرية المتأخرة، وشر البلاد بلاد لا يحكمها نظام، ولا تسودها قيم، ومنع «التفكير» كمنع «التكفير» والله لم يتردد من مخاطبة المخالفين حين قال لهم: {لا تّعًتّذٌرٍوا قّدً كّفّرًتٍمً بّعًدّ إيمّانٌكٍمً} وخطأ المكفرين لا يمنع حقيقة الكفر.
وإذا لم نضبط إيقاع النقد تحول الى صخب ممل، وذلك ما تعيشه بعض المشاهد، فالمسيطرون على آلياته ومعارفه: إما أن يثنيهم عن الصدع بالحق الخوف أو المجاملة، أو إيثار السلامة، أو قمع الشللية، أو التكاثر من الأشياع، أو الجهل بالطارف والتليد، وبعض المتصدرين في المشاهد يقوِّمون ذواتهم بكثرة المريدين، وفيما يقال عنهم من تقريظ مقايض، وفات هؤلاء أن الرسل يأتي بعضهم، وليس معه أحد، وإذا كان الإنسان يحب المعجبين والأصدقاء، ويكاثر بهم خصومه، فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وما نقم البارئ من اليهود ولعنهم إلا لأنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، والذين لاتتمعر وجوههم للفن الأصيل، يعطون الدنية في فنهم، ولا يتناهون عن منكر القول والفعل.
وإذا أضاع الشعراء الشعر، وأضاع الروائيون الرواية، وأضاع النقاد النقد، وأفتى الجهلة وفكرَّ المتسطحون فقدت الحضارة أهم مرتكزاتها، وظهر الفساد في بر الفن وبحره بما كسبت أيدي النقاد، الذين يداهنون ويجاملون، أو يجهلون، والعلم لاينتزع من الصدور.
وإذ نغض الطرف عن المجاملة والمداهنة والخوف من المغمورين والضعفاء فإننا لن نقبله من «الأكاديميين» الذين يقتدي بهم تلاميذهم، ويتوقع منهم حماية الفن الأصيل والقيم الجمالية والأخلاقية، والذب عنها، واذا تخاذل المتخصصون، وغلَّبوا جانب السلامة فإن من دونهم أولى بالمجاملة والخوف، وكم نود التفريق بين اللين والرحمة، وفظاظة القول وغلظة القلب، فالبعض يخلط بين اطراف الممارسات والمواقف، وكل شيء له وسط وطرفان، ومن الحصافة أن يعرف الإنسان كم هو الفرق بين الضعة والتواضع، واللين والغلظة، والشجاعة والتهور، والكرم والتبذير، والحدية الحتمية والأفق المفتوح، وإذ مسنا الضر من المتطرفين والجهلة فإنه لايجوز أن نتخلى عن مقتضيات الحضارة، من تفكير وتكفير وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر وحماية لجناب التوحيد والانهزامية كالاهتياج الأعزل حذو القذة بالقذة.
|