هاتفني «أبو ابراهيم» وتحدّث إليّ طويلاً عن مصايف المملكة، وعن حبّه لها، وعن حرصه الشديد على أن ينصرف إليها أبناء هذه البلاد الذين «يرحّلهم» الصيف إلى أنحاء العام شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، كان يهاتفني من «الطائف» ويبدو انه قد أنِس بالطائف وجوّه الصيفي البارد كلَّ الأنس، ويبدو ان لذّة التين الطائفي بنوعيه «البرشومي» و«الحماط» ولذّة العنب الطائفي قد ملكتا على صاحبنا مشاعره فجعلته يبالغ «مبالغة مقبولة» في الحديث عن مدينة الهَدَا والشفا والمسيال والرّدَّف والوهط والوهيط والحدبان وجباجب وقَرْوَى وشُبرا والحويّة وليَّة، ويطيل في وصفها حتى طلبت منه ان يعتدل في مشاعره حتى لا ينقله هذا الشغف إلى «الغلوّ».
قلت له مازحاً، كيف يا أبا ابراهيم لو جئت إلى الباحة، وتجوّلت في روابيها وصعدت شوامخ جبالها، ورأيت أوديتها، وقرأت الماضي في جدران بيوتها «الحجريّة» القديمة، وحصونها المشيّدة الحصينة؟، وضحك ضحكة عالية لولا أنّ ذَبْذَبات الأثير كانت بيني وبينها لربما أحدثت أثراً في خلايا الهاتف «الجوّال» الذي كان يقوم بدوره خير قيام في نقل هذا الحديث الهاتفي الفضائي الشائق، وقال: أنا أعرف حبّك للباحة، وبي تَوْقٌ إلى زيارتها وقد تجاوزت الطائف جنوباً متجهاً إليها، وانعطفت يميناً في طريق بني سعد وبعد قطعت مسافة في الطريق رأيت أمامي امداداً من السيّارات تراكمت على جانبي الطريق ورأيت تلك الأضواء الزرقاء والحمراء التي تطلقها سيارات الدوريات الأمنية، وخطر ببالي أنها نقطة تفتيش كغيرها من النقاط التي مررنا بها سابقاً، وحينما دنوت هالني ما رأيت، حادث مروري مروّع، أسرة كاملة خرجت من الحياة في تلك اللحظة، حُطام سيارتين عانقتا بعضهما عناق الموت، لا أكتمك أنني شعرت في تلك اللحظة بحزن شديد يعتصرني، وخوف عميق يتحكم من نفسي، ووقفت قليلاً ألتقط أنفاسي، وقد رأيت زوجتي تغمض عينيها وتبكي، وابني الصغير ابراهيم يزيد حزني وخوفي ما رأيت على ملامح وجهه الصغير من الفزع.
لقد عكّر المنظر إحساسي بجمال رحلتي، وأدرت سيارتي عائداً إلى الطائف وهنا تأمّلت الطريق الذي أسير عليه، ولفت نظري أنه طريق واحد لا يتجاوز كما أظن «سبعة أمتار» يقسمه خيط أبيض في وسطه، وتذكّرت ما قرأته عن «طريق الطائف الباحة أبها» من مقالات تشكو من ضيقه وكثرة حوادثه، وأدركت في تلك اللحظة خطورة هذا الطريق، لقد رأيت مئات السيارات تنهبه نهْباً، وتساءلت لماذا لا يعاد النظر في هذا الطريق المهم، عذراً يا أبا أسامة، فقد حال خوفي من الطريق دون رحلتي التي أزمعتها إلى «باحة الريحان والكادي والشيح» التي قرأت أوصافها كثيرا في شعرك.
قلت له: يا أبا ابراهيم إنّ الأعمار بيد الله، ولو أنك واصلت رحلتك عبر الطريق السياحي الذي يخترق بلاد زهران لرأيت ما يمتع ويسرّ من مناظر الطبيعة الجميلة، أما شكواك من الطريق وضيقه، وعدم مناسبته للأعداد الهائلة من السيارات التي تجوبه سفراً وقدوماً كلّ ساعة، فهي شكوى تُضَمُّ الى شكاوى كثيرة سبقت، وأخرى ستلحق أرجو ان تثير مشاعر أحبتنا في «وزارة المواصلات» وتحرّك في قلوبهم الإحساس بالمعاناة، فيضيفوا الى شبكة الطرق «المتميّزة» في بلادنا إضافة جديدة ينتظم بها عقد رائع لعدد من الطرق الكبيرة الفسيحة التي ترسم خارطة رائعة على أرض بلادنا الغالية.
عذراً يا أبا ابراهيم، فلو كنت استطيع لأتيت الى الطائف لأستصحبك معي الى ربوع الباحة، وأريك لماذا تعيش معي في عالم قصائدي.
إشارة
كلما أنزل المسافر رَحْلاً
شدَّ سعياً الى أمانيه رَحْلا
|
|