Monday 28th july,2003 11260العدد الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ترييف المدن والتطرف ترييف المدن والتطرف
د. عبدالرحمن الحبيب*

يتوافق غالبية المفكرين والمختصين على أن بواعث التطرف والعنف الحاصل في هذه المرحلة بمجتمعاتنا العربية لن يُشخَّص بسبب عامل أو بضعة عوامل فقط بل عبر شبكة متداخلة من العوامل المتفاعلة، وإذا كانت هناك عوامل أساسية كالتنشئة الاجتماعية (البيت والمدرسة والمسجد والشارع) والوضع الاقتصادي والإعلامي، فهناك أيضاً عوامل غير أساسية ولكنها مساعدة ينبغي تناولها، ومنها «ترييف المدن».
وترييف المدن يقصد به تحول المدن تدريجياً إلى ما يشبه الريف المتضخم نتيجة الهجرة العشوائية المتفاقمة إلى المدن من الريفيين أو البدو بسبب عوامل كثيرة من بينها تراجع مستوى المرافق الأساسية والخدمات وتفشي البطالة وغير ذلك.. أي زيادة عوامل الطرد من الريف مقابل عوامل الجذب في المدن، وينتج عن ذلك انتقال كثير من القيم الروحانية والثقافية الخاصة بكل ريف إلى داخل المدن لتقوم بدور يخل بالتوازن الثقافي الطبيعي في المدينة، وفي نفس الوقت يمكن ملاحظة أن المجتمع الريفي تعرّض بدوره إلى حالة من التشوه نتيجة خلو كثير من المناطق الريفية من الشباب ومن فعالياته الاقتصادية خاصة في القطاع الزراعي الذي كان يشكّل عصب الاقتصاد الريفي..
العلاقة بين ترييف المدن العربية والتطرف تتأتى من وجهة نظري عبر عدة نواحٍ متداخلة، أهمها الثقافية وأزمة الهوية والمستوى الاقتصادي، فترييف المدن يصاحبه نزوع إلى ثقافة تقليدية محلية متشددة وغير منفتحة تؤدي إلى تهميش أو تراجع الدور المدني التحديثي والتنويري والإبداعي وثقافة الاختلاف والتنوع.. الخ، والثانية أزمة البحث عن الهوية واغتراب قيم الريف والبداوة عن القيم المدينية كما أن الهجرة الكثيفة إلى المدن شكّلت ما يسمى بأحزمة البؤس التي تطوّق المدن والمراكز الحضرية في كثير من المجتمعات العربية، وهذه الأحزمة تتصف بتردي الأوضاع الاقتصادية والخدمات الصحية والبلدية والتعليمية خالقة فوارق اجتماعية كبيرة بين القطاعات الريفية والحضرية داخل المدن، وما يتبع ذلك من اضطرابات اجتماعية..
يرى د. حسن مدن أستاذ التاريخ المعاصر أن المدينة العربية: «خضعت لمتغيرات عميقة ساهمت بدور كبير في الردّة الاجتماعية والثقافية التي نلمسها، أولاً بسبب الهجرة الواسعة من الريف وإهمال الزراعة، ما دفع بفئات واسعة نحو المدينة التي هي مأزومة بالأصل ومن ثم قامت أحزمة فقر حول المدينة العربية، فاستحالت إلى قرية كبيرة، أي على خلاف المدينة كحاضرة ثقافية ومركز حيوي ينبض بالثقافة والتنوير .. هؤلاء المهاجرون لم يندمجوا بمجتمع المدينة، وظلّوا على هامشها كتجمعات قبلية أو عائلية»، ويرى البعض أن أغلب الدول العربية لم يستفد من تجارب التحديث الناجحة في العالم والتي أقامت نوعاً من التوازن الدقيق بين ضرورات التحديث الشامل لكل القطاعات السياسية والإدارية والاقتصادية والمعرفية من جهة والتراث الحضاري لشعوبها من جهة أخرى، فشجعت خططها على ترييف المدن بدل تمدين الأرياف، وتوسعت في نشر العلوم التقليدية النظرية على حساب العلوم العصرية الحديثة فأنتجت بطالة هائلة في صفوف المثقفين، واكتفت بنقل التكنولوجيا المتطورة دون أن تسعى إلى توطينها وتطويرها والإبداع فيها (مسعود ضاهر)، وعَكَسَ ترييف المدن ظلاله السلبية على تطورها وأدى إلى تدهور البنى الفوقية وتهميش النخب المثقفة، وكان من أهم علاماته التراجع الكبير على المستوى الثقافي كحركة الإبداع والمسرح والقراءة .. الخ (محمد عبد الكريم).
وعلى المستوى الاجتماعي يقول د. محمد جابر الأنصاري: في نظرتنا لمجتمعات التسامح يجب أن نفرّق بين عربين، عرب البيئة الصحراوية الذين تعودوا الصراع اليومي من أجل البقاء بحيث يصبح التسامح هنا شيئاً من التهاون في حق الذات وحق الجماعة، وعرب البيئات الحضرية أي الذين سكنوا تجمعات المدن الصغرى في الوديان والواحات وعلى حواف الصحراء، وكذلك عرب الطبيعة النهرية التي يتعامل فيها الناس مع نهر يمر عليهم وعلى غيرهم وعليهم جميعاً أن يتفاهموا على تقسيم هذه المياه، ولا بد أن يسود بينهم مناخ من التسامح والتآلف يفرضه انتظار الفيضان ومواقيت الغرس والبذر والحصاد»، ويعمل تفاقم الهجرة من الريف والصحراء إلى المدن على زيادة الحراك الاجتماعي اضطراباً، نتيجة اغتراب أفراد المجتمعات التقليدية والبحث اليائس عن هوية مفقودة في زحام المدن المنخرطة في عملية التغيير والتحديث، فينزع البعض إلى الجمود حفاظا على الهوية القديمة والتقوقع حول جذور ميتة خارجاً عن طريق المستقبل (حسين توفق).
وإذا كان بعض قادة الحركات المتشددة أدرك المناخ الذي يمكن أن ينتجه ترييف المدن، وانتهز أو انغمس في البيئة الثقافية المنغلقة القادم منها بعض المهاجرين إلى المدن، مستغلاً تأزم الهوية لدى أولئك المهاجرين وموظِفاً العادات والتقاليد الصارمة بمزجها الانتقائي مع بعض النصوص الدينية المجتزأة أو المختارة بغير سياقها أو ما شابه ذلك، فإن كثيراً من المفكرين نبَّه إلى أن الإسلام يشجع المدنية وقيمها الثقافية المتسامحة وإثراء المجتمع المدني، ومن ذلك ما يذكره محمد محفوظ: «يبقى خيار الإسلام الأول انطلاقاً من رؤيته وخبرته وعلاقته بالمدينة والحواضر، إنه يسعى إلى تمدين الريف وغرس القيم المدنية والحضارية في محيطه وأجوائه عكس الخيار المتبع عند الكثير من المدارس والأنظمة اليوم التي فرضت خياراتها ومشروعاتها الاقتصادية والإدارية والاجتماعية ترييف المدن والحواضر..»
لقد أصبح المدنيون قلَّة في أغلب المدن العربية، ورغم أن كثيراً من كبار المفكرين العرب الأفذاذ ورواد الثقافة التنويرية هم من أصول قروية أو بدوية، فإنه يكفي أن بعض المهاجرين إلى المدن - وهم قطاعات اجتماعية ضخمة - رفض الاندماج في ثقافة المدينة التي لم ير فيها سوى غربة روحانية وثقافية وخراب اجتماعي واقتصادي وفقدان للحماية، فلجأ قسراً إلى خبرته السابقة في الانعزال (المناطقي أو القبلي أو الطائفي..) والانغلاق والتعصب لتتهيأ بيئة قد تكون خصبة لأفكار التطرف والعنف والانحراف... إذن لابد من خلق توازن بين المدينة العربية وريفها، وذلك تحدٍ كبير يحتاج وقفة أخرى ومراجعة متأنية!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved