تشرفّتُ قبل نحو ثلاثة عشر عاماً بالمشاركة في أحد «وفود الصداقة» التي زَارت عدداً من دول العالم، شرقاً وغرباً، لشرح موقف المملكة العربية السعودية إزاءَ كارثة اجتياح النظام العراقي السابق لدولة الكويت في الثاني من شهر أغسطس عام 1990م، وكنتُ ضمن الوفد الزائر إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، واستغرقت زيارةُ البلدين نحو ثلاثة أسابيع.
عدتُ من تلك المهمّة بانطباعات متفرقة واستنتاجات هامة، أحسب ان الزمنَ الذي تَلاَ تلك الكارثة على مدىً أكثر من عقد كامل قد أكسبَ تلك الانطباعات والاستنتاجات مزيداً من الأهميّة لاعتبارات يزكّيها إيقاع الأحداثُ الراهنة وسياقُ الزمن الصّعب الذي نعيشه، عربياً وعالمياً!.
كان من أبرز النتائج التي أفْرزتها الزيارةُ ان هناك ضرورة ملحة جداً لإعادة النظر في إعلامنا الخارجي وإصلاحه إصلاحاً يليقُ بسمعة هذا البلد ونظامه وهَيبته على كلّ الصّعد، إسلامياً وعربياً ودولياً، ليكون مسمُوعاً ومقروءاً ومشاهداً، ويستند هذا القول على الفرضية: ... بأنّ نجاحَ الإعلام المناوئ للمملكة في ساحة هامة كالولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن يُنسَبَ كلّه إلى قوة ذلك الإعلام، بقدر ما هو نتيجة لضعف إعلامنا الخارجي في تلك الساحة!..
ويتّكئُ هذا الاستنتاج على ما سمعناه قولاً وشاهدناه تطبيقاً خلال الزيارة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، في ضوء عاملين هامين:
الأول: غياب الحقيقة حول كثير من الأوضاع في المملكة محلَّ التساؤل، واعتماد السائلين إمّا على معلومات نمطّية عفى عليها الزمن، ونسخها المدُّ الحضاري والثقافي في بلادنا، أو على تصورات واستنتاجات روّج لها الإعلام المضاد للمملكة عبر سنين طويلة، وزاد رواجاً بحلول كارثة الاجتياح العراقي الغاشم للكويت، وبجهدٍ مكثّفٍ من الإعلام الصهيوني والمصَهْين على حد سواء!.
* * *
الثاني: ان هناك نزعةً نفسية لدى الكثيرين من الغربيين، والأمريكيين خاصة، لقياس ظواهر الحياة عند الشعوب الأخرى، بمقاييس أمريكية صرفة، والحكمُ عليها وفقَ ذلك، فالديمقراطية مثلاً لا تتحقّق إلا بوجود «كونجرس» منتخب، وحقوق المرأة لا تتأتّى إلا إذا قادت السيارة ومارست حياتها الخاصة والعامة كما تريد، بحدّ أدنى من رقابة الأسرة أو المجتمع أو الدولة، فما اختلف مع هذا التصوّر فهو مرفوضٌ، وما اتفق معه فهو مقبول!.
* * *
وتأكيداً لهذه «المعادلة» المعياريّة غير العادلة لدى بعض فئات الرأي الأمريكي، كان الوفد يسمع أحياناً تساؤلاً صعباً يطرح على النحو التالي:
«إذا، كنّا نختلف معكم في معظم الأمور، اجتماعياً وسياسياً وحضارياً، فما الذي يبرّر موت أبنائنا وبناتنا دفاعاً عنكم؟!» ولعلّ هذا كان من أعتى الأسئلة التي وُجِه بها الوفد في بعض المدن التي زارها.
* * *
وقد حرص زملاء الرحلة في كل المناسبات واللقاءات التي تخلّلت الزيارة ان يوضّحوا موقف المملكة إزاء التساؤل وسواه، انطلاقاً من الثوابت التالية:
أولاً: ان المملكة العربية السعودية تفخَر بدينها الإسلامي، ولا يمكن أن تفرّط به أو تساوم تنازلاً عنه أو تهميشاً له لأي غاية من الغايات، فهو مصدر شرعيتها، وهو لبّ هويتها وهيبتها معاً، ومن هذا الدين، تستمدّ المملكة فلسفتها في التنمية، لحاضر الإنسان السعودي ومستقبله.
* * *
ثانياً: ان الاختلاف مع الدول الشقيقة والصديقة، لا يعني بأي حال إقصاءَ الاتفاق حول العديد من المصالح المشتركة والثابتة التي تلتقي حولها إرادة وأمانيّ بلادنا مع هذه الدول، سياسة واقتصاداً وثقافة وتعاوناً في دروب أخرى متفرقة.
* * *
ثالثاً: ان المملكة تعيش تجربة طموحة للنمو الذاتي، معتمدة على الله تعالى، ثم على قدرات أبنائها وبناتها، ومن يمكن الاستعانة به من أبناء وبنات الشعوب الشقيقة والصديقة.
رابعاً: ان المملكة استثمرت وما زالت تستثمر ثروتها البترولية وغير البترولية في عدة مقاصد منها:
«أ» بناء قاعدة الإنسان السعودي، بإشباع حاجات النموّ له صحياً وذهنياً واقتصادياً واجتماعياً، كي يكون في مستوى يمكنّه من العطاء لنفسه ولوطنه.
«ب» دعم جهود التنمية التي تخوضها بعض الشعوب الشقيقة والصديقة، بالتمويل المباشر وغير المباشر.
«ج» ان المملكة قامت منذ عهد المؤسس الخالد، الملك عبدالعزيز، طيّب الله ثراه بجهد ضَخم نصرة للشرعية والحق الفلسطيني في أرضه ومصيره، وان هذا الجهد يتّخذ أشكالاً عديدة، مادية وسياسية ومعنوية، وأنها لن تحيد عن هذا الصراط أو تميل.
«د» ان المملكة دأبت منذ القدم ألا تجاهر إعلاميا بمعوناتها الخارجية، تجنّباً للمنّ والأذى لمَن يستقبل العونَ، وهي تستهدي في ذلك بأخلاقياتِ الإسلام الذي يحثّ على البرّ الذي لا يشوّهه منُّ ولا أذى!.
* * *
وبعد،
فقد قلنا للأمريكيين قبل نحو ثلاثة عشر حولاً ونقول اليوم ان المملكة تحترم أنظمة وممارسات الشعوب الأخرى في تشكيل مصيرها السياسي والحضاري، فلا تتدخّل فيها بما يضير تلك الشعوب، ولكنها في المقابل، ترفض أن يتدخّل أحد، كائناً من كان، في رسم سياستها، أو تشكيل هوية حاضرها ومستقبلها، وهي تستجيب لفرضية التغيير ذاتياً نحو الأفضل، معتمدة في ذلك على الله، ثم على قدرات أبنائها ومقدراتها في صناعة وإدارة تلك التغييرات.
«وللحديث بقية».
|