كل من عرفه كاتب هذه السطور معرفة شخصية من إخوانه أبناء الرافدين كانوا ممن يعتزُّ بصداقتهم وأخوَّتهم اللتين تعبِّران عن كريم السجايا ونبيل الصفات. ولذلك فإن من المؤلم جداً أن يرى المرء سجل تاريخ العراق العظيم؛ وبخاصة المعاصر منه، سلسلة متصلة من المآسي؛ كل حلقة منها أشد مأساوية وأنكى فداحة من سابقتها.
كان العهد الذي أطاحت به ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958م، صناعة بريطانية بدرجة كبيرة؛ نشأة وتطوراً. وكان داهية ذلك العهد، حنكة ودهاء، نوري السعيد الذي كانت وطأته شديدة على ذوي الاتجاه الشيوعي بوجه خاص. وكان اتِّباعه للغرب من أقوى العوامل التي ساعدته على البطش بالحركة الكردية في بلاده؛ وذلك بيد وزير داخليته الكردي، سعيد قزاز. وعندما بطش بتلك الحركة هرب زعيمها الملا مصطفى البرزاني الى الاتحاد السوفيتي، ولم يعد من هناك الى بلاده إلا بعد ان تمكن الشيوعيون من بسط نفوذهم في العراق، وذلك في عهد عبدالكريم قاسم. ومع ان العهد الملكي في تلك البلاد اتسم بولائه للغرب، الذي كان الداعم لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين، كما اتسم بشدته على مخالفيه ولاسيما الأكراد والشيوعيين، فإنه شهد تنمية اقتصادية جيدة وبدأ إعماراً واضحاً. وما كان دهاة سياسيَّه من النهَّابين لثروة شعبه.
وفي عهد قاسم، الذي تزعم ثورة 1958م، باحت البلاد بأمور فادحة متعددة، والمتأمل في مجلدات محكمة الثورة - أو محكمة المهداوي - المنشورة يجد ان الأمور لم تسر وفق ما خطط قادة الثورة قبل تنفيذها لمسيرتها بعد هذا التنفيذ. وكان من أبلغ ما أوضح ذلك ناظم الطبقشلي ورفعت الحاج سري في افادتيهما أمام تلك المحكمة. وكان الابتعاد عن ذلك التخطيط من أكبر أسباب تدهور الأمور وتمهيد الطريق أمام الشيوعيين المنتهزين المنضمين اليهم ليسيطروا على الأوضاع في بلاد أخذت تموج بها العواصف. وكانت مجازر الآلاف في الموصل على أيدي هؤلاء بعد فشل محاولة الاطاحة بالحكم الذي سيطروا على مقاليد الأمور فيه من أبرز مشاهد مآسي ذلك العهد. وقد أصبح سحل البشر في الشوارع في سائر مدن البلاد من المناظر المتكررة. بل ان كاتب هذه السطور ما زال يرنُّ في أذنيه صوت الزعيم عبدالكريم قاسم نفسه من اذاعة بغداد بعد ان قلب ظهر المجن للشيوعيين وهو يقول: إن ما حدث في كركوك يفوق ما حدث في دير ياسين، فقد دفن الناس أحياء هناك. ومع ان عهد قاسم شهد تقدما اقتصاديا في بعض الجوانب فإنه فشل في سياسته الزراعية؛ إذ أدى النهج الذي اتُّبع الى ترك كثير من الفلاحين العمل في الزراعة والانتقال الى المدن الكبرى، وبخاصة العاصمة، للبحث عن وسائل عمل لم تكن مفيدة للبلاد فائدة الزراعة. وهكذا كان ذلك العهد أقرب في سياسته الاقتصادية الى الفشل منه الى النجاح. على ان البلاد شهدت خلاله وبخاصة في السنتين الأوليين منه، مجازر وفظائع ضد الانسانية لم تشهد مثلها من قبل.
وبعد الاطاحة بحكم قاسم، عام 1963م، انقسم الذين أطاحوا به على أنفسهم، وأصبحت الكلمة العليا في البلاد للبعثيين، الذين لم يكتفوا بالبطش بمن بطشوا برفاقهم في العهد القاسمي فقط؛ بل بطش بعضهم ببعض، ونال البلاد ومن فيها أنواع من المحن والنكبات الى ان سيطر عبدالسلام عارف أخيراً على الوضع. ثم وقعت حادثة وفاته في سقوط طائرتة، وتولى الرئاسة أخوه عبدالرحمن، الذي أحسن صنعاً بتولية الدكتور عبدالرحمن البزّاز رئاسة مجلس الوزراء. فخطت البلاد خطوات ناجحة، وكادت كثير من مشكلاتها شبه المستعصية أن تحلَّ. لكن انقلابا أطاح بعبدالرحمن عارف وحكومته عام 1968م. وبحدوث ذلك الانقلاب بدأت الكارثة الكبرى والنكبة العظمى في العراق. في البداية سرعان ما أطيح بمن نفذوا الانقلاب فعلا من ذوي الاتجاه القومي غير البعثي. ثم سيطر البعثيون سيطرة كاملة. ومع ان الليلة الظلماء تبين من عشاها - كما يقول المثل الشعبي - فإن كبار البعثيين مثل أحمد حسن البكر، لم يكونوا بالسوء الذي كان به صغارهم المتسلِّقون وفي طليعتهم صدام حسين، الذي أبى سوء حظ العراق - ومن ورائه الأمة العربية - إلا أن يصبح الآمر الناهي في هذه البلاد المنكوبة. لقد كانت المجازر التي حدثت في عهد قاسم ترتكب في ظل حكومته لكنها ترتكب بأيدي عصابات الشيوعيين والمنتهزين من أشياعهم. لكن المجازر الفظيعة التي ارتكبت في عهد صدام كانت ترتكب بأمره وتنفذ بأيدي زمرته الخاصة.
وكان حجم تلك المجازر في العهدين منسجماً، بدرجة كبيرة، مع حجم مدتيهما، فالمجازر التي ارتكبت في السنتين الأوليين من عهد قاسم بالذات كانت أقل بكثير من المجازر التي ارتكبت منذ أن استبدَّ صدام بالحكم منذ عقدين من الزمن.
كان ذلك بعضا من سطور تاريخ العراق في الماضي: نكبات تليها نكبات، ومآس تعقبها مآسٍ أنكى منها وأشدّ. فماذا عن الحاضر؟.
لقد أصبحت العراق محتلة من قبل دولة تأمر الكثير من دول العالم فتطيع أوامرها خوفاً من بطشها ورضوخاً لسطوتها. وما يعانيه الشعب العراقي المنكوب من اذلال وقهر وبطش أمور يدركها كل من يتابع وسائل الاعلام المختلفة. ولا يدور بخلد أيِّ دارس لتاريخ هذه الدولة المحتلة بجميع مراحله عبر القرون إلا أن يتوقع من قادتها إذلال الآخرين وقهرهم والبطش بهم. ولقد كذب هؤلاء القادة على شعبهم وعلى شعوب العالم الأخرى بما أدَّعوه من أهداف وغايات في غزوهم للعراق واحتلالهم لها. وفي أوائل تخبُّطهم إثر ذلك الاحتلال عقدت ندوة في أمريكا لمناقشة ما ينبغي اتخاذه من اجراءات تجاه الشعب العراقي المحتل.
وكان من المشاركين فيها الصهيوني أنديك، الذي قال في تلك الندوة: يجب أن نتَّبع الأسلوب الامبريالي القديم: «فرِّق تسدْ».
ومع الثقة بالشعب العراقي بعامة فإن ما عانته الأمة من انتكاسات متتالية جعل الكثيرين منها يرددون قول الشاعر:
رُبَّ يومٍ بكيتُ منه فلمّا
صرتُ في غيره بكيتُ عليه
|
يجعل مشاعر التشاؤم تتسرب الى النفوس. وما يجري على المسرح العراقي يرسخ - مع الأسف الشديد - هذه المشاعر. هناك فئة من الشعب العراقي ظلت عقوداً تبحث عن مصلحتها الذاتية، التي من أسسها الميول الانفصالية، وإن لم تتفق مع مصلحة الشعب بعامة. ولقد أدت بها تلك الميول الى التعاون مع الموساد الصهيونية من قبل أن تتعاون باندفاع مع المحتلين الجدد لبلاد الرافدين. وهناك طائفة من الشعب العراقي دفعها كرهها لصدام - ولا تُلامُ على هذا الكره - الى اتخاذ مواقف ما كان يؤمل أن تتخذها؛ ماضياً وحاضراً. فقد تصرف قادة منها تصرفاً مذهبياً ضيّقاً إن لم يكبح جماحه العقلاء منها فإن عواقبه ستكون فادحة جداً. ويوم يكتب تاريخ عام 1991م بموضوعية وحياد بعيداً عن مؤثرات الحاضر المائج سوف يتضح الشيء الكثير من أسرار ذلك الموقف الماضي.
أما الموقف الحاضر فبعض سماته واضحة. منها طرح حلّ مشكلة العراق على أساس مذهبي؛ حكماً وجيشاً. ومن المرجح ان هذا الموقف غير السوي ما زال يؤثر فيه صدى ما ارتكبه صدام وزبانيته من جرائم - وإن لم تقتصر على فئة دون أخرى -، وموقف الدولة التي كان بعض قادة الطائفة المتنفذين سياسياً ضيوفاً لديها قبل الإطاحة بالحكم الصدّامي المشؤوم؛ عراقياً وعربياً وإسلامياً. وإن أمضى سلاح في يدالمحتل هو تفرقة الشعب العراقي. وإذا كان الصهيوني أنديك قد اقترح هذه التفرقة فإن القيادة المحتلة طبقت شيئاً من هذا الاقتراح بتكوين المجلس الذي كوَّنته على أساس طائفي.
وأمام كل ما سبق لا يملك المرء إلا أن يقول: اللهم يا مجيب الدعوات ومزيل النكبات دلَّ أبناء الرافدين الكرام الى طريق الصواب، واجعلهم يداً واحدة على عدوهم المحتل الذي لا يريد بهم ولا بأمتهم خيراً.
|