للعجز المالي الوطني مساوئ كبيرة على الاقتصاد خاصة على المدى الطويل، هناك على المدى القصير عجز مالي «مفيد» وآخر «سيء» تبعاً لجدوى الانفاق العام. عجز الموازنة الحاصل مثلا بسبب الانفاق الاستثماري على رأس المال الإنساني أو المعنوي أو المادي يعطي مفعولاً ايجابيا على المدى البعيد ويسمح للاقتصاد بالنهوض، وبالتالي يزود الدولة بالإمكانيات الكافية لتسديد الدين. الانفاق على رأس المال الإنساني هو الانفاق على التعليم والتدريب وعلى تحسين مستوى الرفاهية الاجتماعية مما يسمح للإنسان بتطوير انتاجيته خدمة للاقتصاد في قطاعيه العام والخاص. الانفاق على رأس المال المعنوي أو الاجتماعي هو انفاق على تحسين الأطر القانونية والمؤسساتية التي تسمح للإنسان بالعمل بمعنويات وثقة عاليتين، أما الانفاق على رأس المال المادي فيشمل كل قطاعات البنية التحتية التي لا يمكن بناء اقتصاد حديث من دونها، من ناحية أخرى ان العجز الناتج عن الانفاق الاستهلاكي، أو بسبب تمويل إدارة فضفاضة غير فاعلة وغير منتجة، هو سيء على المدى القصير والبعيد إذ يهدر الأموال دون أن يزيد من نوعية وفعالية رأس المال، ومن هنا وجب التنبه إلى مصادر العجز بحيث لا يكون الحكم على إدارة الدولة جائزا بل يستند إلى الوقائع ومعانيها.
المساوئ الأساسية لعجز الموازنة تظهر على المدى الطويل إذا استمر، خاصة «السيء» منه لفترة طويلة، فأوروبا وعت منذ زمن بعيد لمساوئ العجز وتأثيره على مستقبل الاقتصاد، ففرضت عبر اتفاقية ماستريخت على الدول الأعضاء ان يكون عجز موازنتها في حدود 3% من الناتج المحلي الاجمالي وان لا يتعدى حجم الدين العام 60% من الناتج، جنبت أوروبا عبر اتفاقيتها مواطنيها هدرا كبيرا للأموال العامة وتضخما كان من الممكن ان يقضيا على حيوية النواة الأوروبية الواحدة، ساهمت إجراءات ماستريخت في ترشيد الانفاق العام وفي جعل السياسة المالية تساهم أكثر في تثبيت الاستقرار الاقتصادي، من المساوئ الأساسية لعجز الموازنة على المدى الطويل نذكر:
أولاً: التأثير السلبي على التوفير والاستثمار، أي على مصادر التمويل الداخلي للنمو الاقتصادي، فالتوفير يقسم إلى 3 أجزاء تبعاً لمصدره أي توفير الدولة وهو فائض الموازنة وتوفير الشركات وهي الأرباح المحتجزة وتوفير الأشخاص وهو الفارق بين الدخل والاستهلاك، حصول عجز في الموازنة يعني تحقيق توفير سلبي من قبل الدولة، أي تخفيض لحجم التوفير الوطني.
فالأموال المتوافرة لتمويل الاستثمارات تخف، مما يرفع الفوائد ويفرض على الجميع الاقتراض من الخارج، انخفاض الاستثمارات، نتيجة ارتفاع كلفتها وبالتالي عائدها المتوقع، يؤثر سلباً على الأجور والإنتاجية، فعندما تقترض الشركات بأسعار عالية، يتوجب عليها تحقيق عائد مرتفع أو «خيالي» لتسديد القرض مما يسبب افلاسات كبيرة وشاملة، كما يقترض المواطنون عندها بفائدة مرتفعة للاستهلاك أو لشراء السيارة أو المسكن أو غيرهما، مما يتعبهم ويضيق عليهم فرص التسديد، للفوائد المرتفعة مساوىء كبرى ليس فقط على الدولة وإنما على القطاع الخاص والاقتصاد ككل.
ثانياً: استمرار عجز الموازنة يعني تراكما للدين العام وبالتالي تأثيرا سلبياً متزايداً على الموازنة، هكذا تدخل الدولة في حلقة مفرغة تحتاج بعدها إلى عملية جراحية جذرية كي تنقذ نفسها. استمرار عجز الموازنة وتراكم الدين يفرضان على الدولة اتخاذ إجراءات قاسية أحياناً أو مستعجلة وخاطئة أحياناً أخرى، ففي الدول النامية، يتم احيانا تخفيض الانفاق الجيد، كالانفاق على البحث والتطوير والتدريب والتعليم، ويبقى الهدر والفساد، معشعشين في كل زوايا القطاع العام.
ثالثا: الدول التي لا تتحكم بعجزها المالي لابد وان تفقد ثقة أبنائها والمستثمرين، وبالتالي يضعف اقتصادها تدريجيا، تخرج عندها الأموال إلى الخارج للإيداع أو الاستثمار ولا تعود، كما ان الاستثمار الأجنبي المباشر المؤثر بقوة على النمو والعمالة والتطور التكنولوجي لا يأتي إليها، فالدول النامية والناشئة عانت الأمرين من هذه الظاهرة الخطيرة المؤثرة سلباً على المدى البعيد.
رابعاً: يؤثر عجز الموازنة سلباً على الميزان التجاري، فالصادرات الصافية في الحسابات الوطنية تعادل الفارق بين الاستثمارات والتوفير، فلتمويل الاستثمارات، في غياب التوفير الكافي، لا بد من استقدام أموال أجنبية مما يؤثر سلباً على الصادرات الصافية، هكذا نرى العديد من الدول، كالولايات المتحدة ولبنان، يحققون في نفس الوقت عجزا في الموازنة وفي الميزان التجاري بالرغم من التباين التفصيلي الواضح بين الحالتين.
حصول عجز في الموازنة وتراكم في حجم الدين العام يفرضان على الدولة تجميع قواها لمعالجتهما، هناك عدة طرق للمعالجة ولكل منها شروطها وخصائصها، نلخص اهمها كالآتي:
أولاً: زيادة الضرائب أو تعديل النظام الضرائبي لزيادة الايرادات وتخفيف العجز، كل زيادة ضرائبية تؤثر على توزع الدخل ليس فقط بين الأجيال الحالية وإنما بينها وبين الأجيال المستقبلية، ها هو مجلس النواب الأمريكي يقترح الغاء الضريبة على الإرث أو «ضريبة الموت» التي تشجع على الانفاق غير المجدي بل على التبذير، وتؤدي إلى تهريب الثروات، كما انها تسرق في رأي النواب الأمريكيين، الأجيال الحالية وخاصة المستقبلية، بالرغم من مساوئ هذه الضريبة، فهي مازالت معتمدة في أكثرية الدول تحقيقاً للعدالة الاجتماعية وللايرادات المهمة التي تدخلها إلى الخزينة، مشروع القانون المذكور يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي حتى يصبح نافذاً.
ثانياً: تحقيق عمليات خصخصة عبر تأجير أو بيع الأملاك العامة لزيادة فعالية المؤسسات وتخفيض حجم الدين العام وبالتالي كلفته، تدل التجارب الغنية في أوروبا الشرقية على نجاح عمليات الخصخصة بدأ من السنة الثالثة، يتم تقييم النجاح عبر المبيعات ومستوى إنتاجية العمالة التي تحسنت جميعها بعد الخصخصة، إن نقل ملكية أو إدارة الأملاك من القطاع العام إلى الخاص يساهمان في تخفيف الهدر وتحسين الإنتاجية ونوعية الخدمات المقدمة بأسعار أفضل، ليس هناك نقاش عالمي وعلمي يذكر اليوم حول جدوى الخصخصة، وإنما حول الطرق المتبعة والتوقيت والشفافية، يقول الاقتصادي كورناي ان الاستعجال في تنفيذ برامج الخصخصة مضر جداً لأن نجاحه مرهون بالأوقات وبالمراحل التي ينفذ خلالها، أما التسنيد، فلا جدوى منه إذ يسلب ايرادات المستقبل لتغطية تقصير الحاضر، وهذا بعيد كل البعد عن الأخلاق والتصرف الحسن والنظرة البعيدة، الفرق الكبير بين الخصخصة والتسنيد هو ان الأولى تنقل المؤسسة إلى القطاع الخاص وتحسن وضعها وتفعل عملياتها لمصلحة المواطن والاقتصاد، أما التسنيد فيرهن ايرادات أجيال المستقبل لمصلحة الأجيال الحالية دون ان يساهم في تطوير الإنتاجية أو تفعيل المؤسسات العامة. يعتمد التسنيد في الدول النامية فقط كحالة قصوى أخيرة، أي عندما يستنفد كل شيء وتتبخر الآمال الواقعية، نعم للخصخصة ولا للتسنيد لمصلحة الحاضر وخاصة المستقبل.
ثالثاً: ترشيد الانفاق أي وقف الهدر وتوزيع الانفاق على الحاجات الرئيسية التي تخدم مصلحة الاقتصاد على المدى البعيد، ترشيد الانفاق يترافق عموماً مع اصلاح إداري يساهم في زيادة انتاجية الإدارة، إذ لا يمكن للدولة ان تقوم بواجباتها إذا بقيت إدارتها ضعيفة وفاسدة، من هنا أهمية اعتماد وسائل معروفة لتخفيف حجم القطاع العام وخاصة لتفعيل دوره، المهم هو تحديد دور القطاع العام في الاقتصاد الوطني بحيث يلبي الحاجات العامة ويسمح للقطاع الخاص بالازدهار.
لبنان هو من بين الدول العربية التي وعت لمخاطر العجز المالي والدين العام، وما انعقاد مؤتمر باريس 2 إلا أكبر دليل عليه، نعم لترشيد الانفاق ووقف الهدر وتحصيل الرسوم والضرائب وتطبيق الاصلاح الإداري، مهما بلغت التزامات باريس-2، لا يمكن ان تتقدم على المصلحة الوطنية التي تقضي الآن بممارسة دور اجتماعي عام مناسب وبتأجيل الخصخصة حتى تصطلح الأسواق المالية الدولية، هذا يفرض على الدولة الاستمرار في التحضير للقوانين وللمؤسسات المناسبة.
www.louishobeika.com
|