* رام الله - نائل نخلة:
لم يكن في بال عفيف البرغوثي ان سعيه وراء لقمة العيش التي باتت صعبة في هذه الايام على الفلسطينيين جميعا ان تتحول الى مسلسل عذاب وتنكيل وإهانة لأكثر من 30 ساعة متواصلة.
البرغوثي، 33 عاما يقيم في بلدة عابود غربي مدينة رام الله مع اسرته المكونة من بنتين وولد، اتصل عليه احد الاصدقاء واخبره انه قد وجد له عملا في الطراشة في احد الورش ببلدة الرام الواقعة بين مدينتي القدس ورام الله وان عليه الحضور لاستلام عمله الجديد.
خرج من بيته صباحا وتوجه الى رام الله ومنها الى حاجز قلنديا، عندما اقترب من الحاجز سأل السائق عن الحاجز فهو لم يصل الى هذه المنطقة منذ ثلاث سنوات اي منذ بداية انتفاضة الاقصى، فهو لم يكن يعرف مكانه وكيف يمكن المرور منه والنظام المتبع فيه - فسأله كيف يمكنني اجتياز الحاجز؟، فرد عليه سائق التكسي: «اذا معك تصريح حواجز بامكان العبور، غير ذلك فانت وحظك أو الالتفاف على الحاجز من منطقة الكسارات القريبة مشيا على الاقدام».
فقرر البرغوثي ان يجرب حظه ويا ليته ما جرب.. يقول البرغوثي: وقفت في طابور طويل تحت اشعة الشمس الحارقة، وبعد نصف ساعة جاءني الدور، طلب مني الجندي التقدم نحوه فأعطيته بطاقة الهوية، دقق فيها ونظر الي بإمعان، وفاجأني بقوله: انتم مرافق لمروان البرغوثي..؟، فقلت له: لا، انا مجرد عامل في الدهان ولم التق بهذا الشخص طوال حياتي، فرد علي الجندي بقوله: انت كذاب، انت مرافق لمروان البرغوثي، ولهذا السبب انت مطلوب لنا.. وتركني وانا في بالغ حيرتي بعد ان طلب مني ان اقف جانبا ولم اعرف ماذا وكيف اتصرف، فأنا لأول مرة اواجه هذا الموقف، فلم يسبق وان اعتقلت او حتى شاركت بعمل مع اي تنظيم فلسطيني.
فكيف هذا الجندي ومرة واحدة يتهمني اني مرافق وأعمل لدى مروان البرغوثي المعتقل لديهم بتهم خطيرة، ولكن كان الأمل يتسلل الي عندما شاهدت الجندي يفحص بين الاوراق والقوائم الموجودة لديهم، فأنا بكل ثقة لا يوجد عندي أي شيء يتهمونني أو يدينونني فيه فلماذا الخوف.
جاء الجندي هو هو مرة أخرى وقال لي انت مطلوب، فقيد يدي الى الخلف، وعصب عيني، وجرني الى منطقة قريبة من الحاجز وأجلسني على الارض على هيئة القرفصاء، كل هذا حدث في دقائق ولم اكن أصدق ما يحدث معي.
وبدأ في تسديد اللكمات والضربات على مؤخرة رأسي وظهري وأنا مقيد الى الخلف ويرافقها بشتائم ومسبات بكلمات نابية وبذيئة جدا تعرض فيها الى الشرف والأخوات والزوجة والأم وكل ماهو فلسطيني.
وكان يرافق ضرباته باتهامات ليس لها أي قيمة، فيقول لي انني من جماعة البرغوثي لأننا من نفس العائلة، فقلت له ان عائلة البرغوثي تعد أكثر من عشرين ألف شخص موزعون على قرى وبلدات كثيرة في رام الله، بالاضافة الى مروان من بلدة كوبر وأنا من قرية عابود.. ولكن دون جدوى.
بقيت على هذه الحالة وانا مقيد اليدين خلف ظهري ومعصوب العينين لأكثر من 30 ساعة تعرضت فيها الى شتى أنواع العذاب والتنكيل والاهانة.
ويقول البرغوثي في شهادته لمراسلنا «عندما خفت حركة الناس على الحاجز وبدأ الظلام يخيم في المنطقة، انفرد الجنود بوجودي وحيدا على الحاجز وتجمع علي أكثر من خمسة جنود، منهم من بدأ بضربي بالهروات، وآخر ضربني ببربيج قاس جدا ومؤلم، وثالث ضربني بأعقاب بندقيته، ورابع سدد لكماته على وجهي وانفي وجبيني ومؤخرة رأسي، وخامس بدأ يضربني بأداة حادة أظن انها اسطوانة اطفائية، وجميعهم اشتركوا في اطفاء السجائر في جسمي، فمنهم من اطفأها في شواربي، وآخر في رأسي وآخر في يدي وآخر في ظهري وما زالت جميعها بارزة للعيان في جسمي، حيث أحدثت حروقا وندوبا مختلفة، وسببت لي ألما شديدا حتى اللحظة.
بقيت على هذه الحالة وأنا أصرخ، ولكن كنت أشعر أنهم يستلهمون من صراخي قوتهم، وحقدهم، وعنصريتهم، كان صراخي الطاقة المتجددة في اجسامهم للامعان في العذاب والاهانة.
«الله أكبر، الله أكبر.. الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم» صوت بعيد للأذان ولكنه رن في أذني، فكانت كلمات اشعرتني بالطمأنينة والسكينة في لحظات شعرت فيها ان موتي أصبح محققا على يد هؤلاء الوحوش، وكان الأذان أيضا كان المنقذ لي، فابتعدوا جميعا من حولي وتركوني اسبح في ألمي وأنيني.
ويتابع البرغوثي «لم يسمحوا لي طوال هذه الساعات بالتبول، فرغما عني اضطررت للتبول في ثيابي اربع مرات، كما أنهم منعوا عني الشراب والطعام».
بعد اذان الفجر توقف عذاب البرغوثي ولكن لم يتوقف احتجازه وبقي على هذه الحالة مقيدا ومعصوب العينين حتى الساعة الرابعة والنصف عصر يوم الاحد.
يقول البرغوثي «جاءني جندي وسألني لماذا أنا هنا؟ فقلت له لا أعرف؟ يبدو ان هناك اختلاطا في الأسماء، فذهب الى زملائه وعاد الي ومعه الهوية، وبدأ يجري اتصالاته مع أحد المسؤولين عنه عبر اللاسلكي وكنت أسمع ما يقال له من الجانب الآخر فيقول عفيف:
«أخبرهم الجندي ان شخصا يدعي عفيف البرغوثي ويحمل رقم هوية كذا وكذا محتجز على الحاجز منذ صباح يوم أمس، كيف اتصل معه؟، جاء الجواب انتظر قليلا.. وبعد دقائق جاء الجواب انتظر قليلا.. وبعد دقائق جاء الجواب: هذا الشخص لم يبلغني أحد عن وجوده على الحاجز منذ أمس، وهو ليس على قائمة المطلوبين التي لدينا، اطلقوا سراحه فورا».
وبالفعل فك الجندي قيوده والعصبة من عينيه وأعطاه بطاقته الخاصة وقال له بامكانك الآن ان تعود الى البيت وقال له مودعا «يوم توف» وهي كلمة بالعبرية تعني يوم جميل، فرد عليه عفيف وهل أريد يوما أجمل من هذا اليوم؟ وتركه وغادر الحاجز ولكنه لم يكن قادرا على السير.
فساعده بعض الفلسطينيين هناك ونقلوه بسيارة الاسعاف الى مستشفى رام الله الحكومي وبعد اجراء الفحوصات اللازمة واعطائه وصفة طبية غادر المستشفى عائدا الى زوجته واطفاله الذين ظن في لحظات طويلة انه لن يكون بمقدوره مشاهدتهم.
واليوم يلازم البرغوثي فراشه في البيت، ومن حوله عائلته، قرر ان يلجأ الى كل الطرق والوسائل لفضح ممارسات جنود الاحتلال على حواجز الاذلال والقهر لهذا الشعب المسكين، فقرر ان يلجأ الى منظمات حقوق الانسان الدولية او حتى الاسرائيلية ويفكر في الذهاب الى المحاكم الاسرائيلية مع علمه الاكيد انهم شركاء جميعا في الجريمة وكما يقول المثل العربي فاقد الشيء لا يعطيه ولكنه هذه المرة سيحاول ليفضح هؤلاء الذين وصفهم «بالنازية الجدد».
|