لا يمكن لمن يشاهد جثث أعداد لم تكن قليلة ابدا من شباب عراقي دفنوا بثيابهم وربما أحياء داخل المقابر الجماعية التي اكتشفت وتلك التي لم يتعرف عليها أهلها إلا من مزق قمصانهم ودفاتر الهوية معلوجة في جيوبهم إلا أن يسأل بحرقة وحيرة كاوية: أين كانت المنظمات الحقوقية الدولية والاقليمية والعربية من هذا الانتهاك المرعب لحقوق الإنسان داخل العراق. أين كانت لجان حقوق الإنسان بالأمم المتحدة وبالجامعة العربية حين كان جنود صغار من الشرطة العراقية يموتون من الضرب والاهانات فعلا لا مجازا كما عرضت علينا الكاميرات.
لقد صدر الإعلان العالمي الأول لحقوق الإنسان من الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر يناير عام 1948م إلا أن مطلع عقد السبعينيات شكل مرحلة جديدة في الشأن الحقوقي الدولي داخل الأمم المتحدة من حيث تحديد الحقوق وتفعيل آلية وضعها موضع التنفيذ في مجتمعات الدول الأعضاء.
وقد أطلق حينها على مجموعة الإعلانات والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي طورت خلال الفترة الممتدة بين التاريخين مسمى جامع هو (القانون الدولي لحقوق الإنسان) الذي تدرج من حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى حق التعددية الفكرية والسياسية في المجتمع الواحد وحقوق الأفراد والجماعات ضد التمييز والقمع.
وبموجب ذلك القانون الدولي صار على الأمم المتحدة مسؤولية الحماية الدولية لحقوق الإنسان.
كما صار من حق المنظمة الدولية بموجب تلك المسؤولية ممثلة في اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الاقليات المتفرعة عن لجنة حقوق الإنسان ان تنظر في البلاغات المقدمة لها من الأفراد والجماعات أو المنظمات غير الحكومية ضد الحكومات في حالة انتهاكات الحقوق التي قد تقترفها الحكومات.
وقد خول هذا المعيار الحقوقي الفرد أن يصبح موضوعاً من مواضيع القانون الدولي في مواجهة حكومته في حالة عدم تقديرها لحقوقه.
وهذا ما استند عليه في تأسيس الموقف القانوني الدولي القائل بأن قضايا حقوق الإنسان تعتبر من الالتزامات الدولية التي توظف لصالح المواطنين في المجتمع الدولي.
وبذلك لا يعتبر حق الأمم المتحدة في مساءلة الحكومات عن أي انتهاكات حقوقية تجاه المواطنين جماعات أو أفراداً والاعتراض عليها تدخلا في الشئون الداخلية لتلك الحكومات في حالة فشلها في الحفاظ على حقوق مواطنيها وتمكينهم منها بدرجة من العدل والمساواة أو في حالة لجوئها لأساليب قسرية لإجبار المواطنين على السكوت عن حقوقهم كالعقوبات أو التعذيب.
وفي هذا الاطار الحقوقي الدولي صدر عن مجلس الجامعة العربية عام 1968م قرار انشاء لجنة اقليمية عربية دائمة لحقوق الإنسان وعقد مؤتمرها الأول في نفس العام ببيروت.
وفي العام 1970م وضع مشروع إعلان عربي لحقوق الإنسان وشملت الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا ان مجلس الجامعة العربية من العام 71م إلى العام 81م لم يصدر أي قرار يتعلق من قريب أو بعيد بحقوق الإنسان ومدى احقاقها أو انتهاكها فيما عدا قرارات تسمية رئيس اللجنة كل عامين. ولم يحدث طوال عقد الثمانينيات أي تحرك يذكر في اتجاه تفعيل هذه اللجنة الحقوقية اللهم إلا إعلان مشروع الميثاق العربي لحقوق الإنسان عام 83م كاستجابة لمبادرة الامانة العامة لاتحاد المحامين العرب بضرورة تنشيط اللجنة العربية لحقوق الإنسان ووضع ذلك الميثاق وإن كان وضع ذلك الميثاق لم يخل من معارضة بعض الحكومات العربية وقتها.
على أن تلك المواقف الحكومية العربية المعارضة أو المترددة من الميثاق لم تكن وحدها من أسباب حالة الشلل التي اصابت لجنة حقوق الإنسان وميثاقها لما يزيد على ربع قرن فيما حقوق المواطن العربي تنتهك يوميا دون أن يطرف للحكومات العربية التي مارست أو تمارس تلك الانتهاكات طرف.
فمن الاسباب الجوهرية لذلك الشلل الذي كان يغري الحكومات بالإمعان في الانتهاكات خلو الميثاق من القاعدة القانونية التي تجعله ملزما للدول الأعضاء بالجامعة العربية والتي تجعله جزءاً من تشريعها الداخلي.
عدم إلزامية نفاذه للدول الأعضاء. فعلى خلاف المواثيق الدولية والإقليمية المشابهة لم تلزم الدول العربية بتقديم تقارير دورية تفيد التقيد بأحكام ذلك الميثاق الحقوقي واحترامها لتراجع امام لجنة من الخبراء غير الحكوميين كما أنه لم يكن لدى الجامعة العربية أي آلية لمحاسبة الحكومات في حالة تعديها على حقوق المواطنين كوجود محكمة عربية أو سواها من آلية إلزام الحكومات بتطبيق بنود الميثاق.
هذا عدا الغموض في الصياغة القانونية لذلك الميثاق بما كان يتيح للحكومات تعمية الانتهاكات أو تفسير بعض قرارات الميثاق بما يبرر خروجها عليه كما تأكد ذلك في أكثر من مصدر ومنها الكتابات الحقوقية والقانونية المتعددة في هذا الشأن.
لا يمكن للجامعة العربية الوقوف كشاهد «ماشافش حاجة» أو أنه رأى وآثر التواطؤ بالصمت عما يجري على الساحة العربية بانتظار قيام نظام عربي جديد أقدر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بل لابد لها من المبادرة للمشاركة في حمل عبء بعض هذه التحديات، توجهها في ذلك بوصلة عمل عدم الانحياز للحكومات على حساب الشعوب والاستعانة في ذلك بالمؤسسات المدنية من المؤسسات المهنية إلى المؤسسات الأهلية الأخرى الحقوقية والسياسية وما إليهما.. الجامعة العربية في هذا الشأن بحاجة إلى منظومة جديدة للتصويت وملزمة بالجزاءات وآلية واضحة لتسوية الخلافات والتناقضات مع إتاحة مساحة لا تصادر حق الاختلاف بين الدول الاعضاء وتسمح بالخلاف غير الصدامي بصيغ عقلانية. وهذا يتطلب تحديث المفاهيم في وثائق الجامعة بما يتناسب مع المتغيرات المعاصرة وبما يستجيب لحاجات ومستجدات الاوضاع القانونية والسياسية التي تجتاح العالم وخاصة أن لمنطقتنا حصة الأسد في بركان الحدث السياسي الدولي قبل وبعد الحادي عشر من سبتمبر. لقد قرأنا عن عمل الجامعة العربية مؤخراً على عقد سلسلة من اللقاءات والاجتماعات مع بعض المعنيين بالشأن السياسي والفكري العرب للتدارس في إجراء بعض الإصلاحات على أوضاعها ومع اعتقادي الشديد بأن الجامعة العربية سواء في تركيبتها الهيكلية أو في تشكيل ميثاقها ولوائحها القائم تعاني من إشكاليات بنيوية بعضها قابل للتجديد والتطوير من منظور مستجدات العصر وبعضها يصعب تغييره بدون حدوث تغيرات جذرية في النظام العربي، فإن بودنا ألا تمر مثل هذه اللقاءات والاجتماعات دون أن تحاسب الجامعة العربية نفسها وميثاقها لحقوق الإنسان عن فظائع الجرائم التي ارتكبها النظام «الصدامي» في حق الشعب العراقي. ولا أعني بذلك أن تكتفي الجامعة العربية بأن تطالعنا باعلان بيان استنكار أو إدانة هنا أو هناك إذ أن المطلوب هو أكثر من بيانات الإدانة والاستنكار كما درجت العادة في جل حالات الاعتداءات التي يتعرض لها الوطن والمواطن العربي سواء في الداخل أو الخارج.
فإذا كان لابد من اتخاذ موقف إنكار «سياسي» لتلك الكارثة الإنسانية والأخلاقية المتمثلة في المقابر الجماعية على أرض العراق فإن المطلوب أمام هذه الكارثة هو أكبر وأكثر من تسجيل المواقف السياسية. أن المطلوب أن يعاد النظر في ميثاق حقوق الإنسان العربي لخلق ضمانات قانونية ووضع آليات ملزمة لتطبيقه ضمن صلاحيات الجامعة العربية وذلك للتدخل في الوقت المناسب وليس بعد فوات الأوان لاعتراض أي انتهاكات حقوقية مشابهة في هذه أو تلك من دول منظومة النظام العربي وإلا فإنه لا جدوى من كل الاجتماعات واللقاءات.
|