Friday 25th july,2003 11257العدد الجمعة 25 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من صور الاغتراب من صور الاغتراب
د. موسى بن عيسى العويس(*)

حين يطلق مصطلح الاغتراب ينصرف الذهن مباشرة إلى دلالته المكانية التي تعني الهجرة من بلد لآخر، تحت دوافع معينة، في حين انه يحمل دلالة زمانية، وفلسفة اجتماعية. وقد يكون ذلك الانصراف المباشر لقساوة التجربة الاجتماعية، والأبعاد النفسية التي يعانيها من اقتلع من تربة وطنه، وطوح به في مجاهل قصية، وثلة من الناس قلوا أوطانهم لأسباب سياسية، أو اجتماعية، دون أن يكون للمادة أثر في دافعيتهم، وهؤلاء في الغالب هم طلاب المجد والعلا، والذين لا تزيدهم الغربة غالباً إلا إباء، وتشبثاً بالنهج، وإصراراً على المبدأ، متحدين في ذلك واقعهم، وهم في تصويرهم لحياتهم يحاولون ان يتناسوا عناصر الارتباط الوجداني نحو البيئة بكافة عناصرها، والتي تتعدد ألوانها عند الأدباء المغتربين، وخير من يمثل ذلك الشاعر المصري «محمود سامي البارودي»، وقد نبا به الوطن، وسدت عليه مسالك الحرية، فأنشأ يقول:


إذا المرأ لم ينهض بما فيه مجده
قضى وهو كل في خدور العواتق
وأي حياة لامرئ إن تنكرت
له الحال لم يعقد سيور المناطق

وكم من مغترب لم يكن حظه من غربته سوى الأسى، واللوعة، والألم، والندم، وبخاصة من لم تتحقق آماله، وينال شيئاً من أمانيه وأحلامه، وهناك من صور الاغتراب ما يتخطى حدود المكان، ذلك هو الاغتراب النفسي الذي يمثل أقسى الصور، واشدها إيلاماً ومضاءً، وأحفلها بالعواطف، إذ انها نابعة في الغالب من شعور حاد بمساوئ المجتمع، ووطأة الحياة، حتى استقر في أذهان هذا الاتجاه ان الآخرين لا يفهمونهم ولا يقدرونهم حق قدرهم، ومن هنا اصيبوا بالانفصام عن المجتمع، وغردوا في عوالم غريبة، يبثونها اشجانهم، ويسقطون عليها من ذواتهم، هذه الفئة من الأدباء كانت من ضمن اهتمامات الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين في مؤلفه «من شعراء البؤس»، حيث تقصى هذه الظاهرة الاجتماعية، وكشف عن مدى الارتباط بين ظروف الحياة التي قاسوها، والأثر الأدبي الذي انتجوه، لا سيما وقد تشابهت ظروف المؤلف الاجتماعية كما يقول مع بعض هؤلاء إلا ان شعوره بالإيمان، والرضا بما قضى وقدر، أضفى على إنتاجه الفكري توازناً يدفع تهمة الانطواء، واستعذاب الحرمان، والتلبس بلبوس اليائسين والبائسين أمام ابتلاءات الحياة. ومن الأدباء الذين تبدت ظاهرة الاغتراب في آثارهم الشاعر السعودي/ حمد الحجي الذي انتقل في مطلع صباه من بيئة غير بيئته، وصحب أناساً غير الذين عرفهم، وتشرب ألوانا من الثقافة لم تكن ميسرة له في قريته، وتلك أشياء جدت في حياته فزادت من حسه المرهف رهافة وتنبها، وتفاعل معها تفاعلا اندفاعيا، ربما أفضى بصاحبه إلى حالة من الانفصام، والقلق النفسي الذي اعتراه، مما جعله يختزل حياته البائسة في بيتين من الشعر:


يا من يسائل كيف العمر أنفقه
هذي حياتي ببحر القول أرويها
حبُ، وسجنٌ، وحرمانٌ، وداجيةٌ
من الليالي بأشعاري أزجيها

ومما زاد من عزلته شعوره بالاضطهاد والنقص من المحيطين به، وعلى وجه الخصوص قرناء الصبا والشباب الذين لم يقدروا مواهبه وابداعاته، ولم يحسنوا التعامل مع سلوكه ونتاجه الوجداني على النحو الذي يرتضيه، ولم تكن حياة الشاعر المصري «عبدالحميد الديب» بأيسر من سابقه، حيث كانت حافلة بصور حية من الفشل الذريع، فظل قلبه ميدانا لحشود متلاحقة من الآلام والأحزان العاصفة، إذ انطلق في شعره يصور منازعه النفسية على موهبة نبعت وغردت في الفقر الذي ولد فيه، ناهيك عن عيشه أوساط أسرة نكبت بتخطف الموت كثيراً من أفرادها، فقد ألفت المنايا ان تزورهم حيناً بعد آخر فتشكلت في حياته إثر ذلك حلقات متصلة من اليأس والبؤس، والاضطراب والقلق، والصراع المرير مع الحياة والناس والسجن والشك والريبة والحيرة. وأمام هذا الفشل الذريع في الانتماء إلى الحياة، واقتناص ملذاتها، والتكيف مع المجتمع الإنساني على صوره، رفع «عبدالحميد الديب» لواء التهكم والسخرية تعبيراً عن سخطه المتزايد والسلبي تجاه مظاهر الاغتراب التي تحيط به من كل صوب، وإليك هذه الصورة المزرية التي يرسمها في أكثر من نموذج حين يقول: نهاري، إما نومة بين مسجد غرارا، وإما في الطريق تسكع واطوي عصي الليل في القرّساعيا وأيان للآفاق في الكون مهجع إذا اذنوا للفجر طرت مسارعاً إلى مسجد فيه أصلي وأركع أصلي بوجدان المرائي وقلبه وبئست طلاة يحتويها التصنع أمر على المقهى فأسمع شامتا يمزق في عرضي وآخر يشفع.
(*)إدارة التربية والتعليم بمنطقة الرياض

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved