شكّل الشعر قالباً ثانوياً في أدب جبران خليل جبران بالنسبة إلى مستوى التألق الفني الذي برز في نثره، وترك أثره في الأدب المعاصر، ذلك التألق في انساق النثر لم يكن ليحول من اتصاف جبران بغالبية المناحي النفسية والتعبيرية التي تتوافر عند الشاعر، من حيث الاتقاد العاطفي، واتساع الخيال، والحس الموسيقي، والنزوع إلى إبراز الفكرة بقالب تصويري طريف، يؤازره حس جمالي مرهف.
من غير شك ان جبران خليل جبران لم يعد النظم الشعري غاية أساسية، بل عده في معظم قصائده وسيلة للتعبير عن أفكاره الفلسفية تجاه ثانوية الوجود، ولعل هذا ما دفع بنفر من الأدباء إلى نقده، حين أثقل كاهل الشعر بموضوعات لا تتسق مع طبيعته، وهي مآخذ طالت غيره من الأدباء الثائرين أمثال: ميخائيل نعيمة، ومحمود عباس العقاد.
لكن ذلك لم يمنع جبران حين يبتعد عن هذه الموضوعات من مقاربة النفس الشعري، حتى بدت بعض قصائده الوجدانية غنية الايحاء، طريفة الصورة، عفوية الرؤى، وربما كانت قصيدته «بالأمس» أصدق شاهد، حيث تتجلى فيها سمات شاعريته، وهو يفصح عن فلسفته تجاه أطوار حياته:
كان لي بالأمس قلب نابض وأراح الناس منه واستراح
ذاك عهد من حياتي قد مضى بين تشبيب وشكوى ونواح
إنما الحب كنجم في الفضاء نوره يمحى بأنوار الصباح
وسرور الحب وهم لا يطول وجمال الحب ظل لا يقيم
وعهود الحب أحلام تزول عندما يستيقظ العقل السليم
والمطلع على حياة جبران كما صورها «ميخائيل نعيمة»، والمتتبع لآثاره يدرك انه رجل بائس في كافة مراحل حياته، ولكنه يلوذ بالأمس هرباً من الحاضر، ويستنجد أيام الشباب من باب التقليد كلما واجهته المآسي، وحزبه حازبها، يعود أحياناً إلى براءة الطفولة كما تصور له من أترابه، ويستلهم من الطبيعة عواصفها ونسماتها، وعتوها ورقتها، موظفا تقلباتها في تصوير نفسيته التي تناهبتها الوساوس وعوامل القلق، وهو في كل هذا يسعى إلى غطاء يغلف قبح الواقع الذي لازمه، حتى جاءت الصورة الشعرية، والايقاعات الموسيقية المختلفة في شكل قصيدته تعكس نفسيته غير المستقرة:
كنت إن هبت نسيمات السحر
أتلوى راقصاً من مرحي
وإذا ما سكب الغيم المطر
خلته الراح فأملا قدحي
|
كل هذا كان بالأمس، وما كان بالأمس تولى كالضباب ومحا السلوان ماضي كما تفرط الأنفاس عقدا من حباب وجبران خليل جبران في ذكرياته يبتدع نهجا رومانسيا يخالف أترابه، فإذا كان الآخرون كما يقول جبران يذكرون فجر الحياة، فرحين باسترجاع رسومه أحياناً، متأسفين على انقضائه، بوصفه عهدا ذهبيا يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه، فإن تلك الذكرى لديه تتكاثف لتملأ صدره بأوجاع من التأمل ومرارة التفكير، ناسجة بأنوالها نقابا من اليأس والقنوط حول قلبه المثخن بجرحات حبه العاثر.
وإذا جاءت ذكريات جبران حائمة حول الحب، فإنه من الطبيعي ورود صورة المرأة عنده، هذا المخلوق الذي ظل عند جبران على وجه الخصوص طيفاً رائعاً يتجدد، يذكي تشوقه ولا يرويه فيفتر ويزول:
يا بني أمي إذا جاءت سعاد
تسأل الفتيان عن صب كئيب
فاخبروها ان أيام البعاد
اخمدت من مهجتي ذاك اللهيب
ومكان الجمر حل بالرماد
ومحا السلوان آثار النحيب
فإذا ما غضبت لا تغضبوا
وإذا ناحت فكونوا مشفقين
وإذا ما ضحكت لا تعجبوا
إن هذا شأن كل العاشقين
|
ذلك الطيف نراه يتقلص من ذاكرته، بعد ان عرف الحب الواقعي بكل وجوهه، فيخلص من ذلك ان الحب الذي لا يتجدد في كل يوم وليلة وفقا لفلسفته الاجتماعية يتحول إلى شكل من قوة الاستمرار، لأن ما يتوق الإنسان إليه، ويعجز عن الحصول عليه أحب إلى قلبه مما قد حصل عليه.
هذه النظرة الآحادية يفسرها هواه ب«مي زيادة» الذي استمر حتى غروبه، مع انه لم يرها مرة واحدة، بل تكثف البعد المكاني على شكل ذكريات أسبغ عليها بأدبه هالة من السحر، حيث رأى خيالها في وجوه الكتب والأسفار، وشاهد خطوط قامتها بين غيوم السماء، وسمع نغمة صوتها متصاعدة مع خرير السواقي.
وربما كانت بنيته الهزيلة، والعقد التي استحكمت على جبران في مراحل نموه الذهني والنفسي والعاطفي، من فقر، وجهل، ومرض، وموت هو الذي جعله يحاول الهروب من مواجهة المرأة، أو بعبارة أخرى يحاول الاتصال بها روحياً وحسب.
وبالرغم من ان الكبرياء التي حاول ان يتلفع بها في علاقته مع المرأة، إلا انه لم يستطع اخفاء صور من المعاناة مع الحياة والمجتمع، هذه المعاناة التي برزت في شعره أحسب انها صورة أخرى من صور تحديه للظروف التي عاشها، وتركت ميسمها على تعابيره:
شاخت الروح بجسمي وغذت
لا ترى غير خيالات السنين
فإذا الأميال في صدري مشت
فبعكاز اصطباري تسعين
والتوت مني الأماني وانحنت
قبل ان ابلغ حد الأربعين
تلك حالي فإذا قالت رحيل
ما عسى حل به قولوا: جنون
وإذا قلت أيشفى ويزول ما به؟
قولوا: ستشفيه المنون.
|
إدارة تعليم منطقة الرياض
|