وصلني قبل ايام خطاب من بلدية الزلفي يتضمن توجيهاً بإزالة بيتنا القديم «الطيني» المهجور بحكم انه مع اقرانه يشكل خطراً على من يمر به، خصوصاً الاطفال الذين قد يتخذون هذه البيوت المهجورة مرتعاً للهوهم وبما اننا جميعا نقدر وجهة نظر البلدية التي تبنت هذه المهمة بناء على مرئيات لجان من الجهات المسؤولة وكلنا نقدم المصلحة العامة ونقدرها بكل تأكيد فقد عزمت على تنفيذ هذه المهمة ولكني رأيت من باب الوفاء «في الوقت الضائع» لهذا المنزل الذي آواني في طفولتي ومقتبل عمري مع عائلتي وفي ايام كنا بأمس الحاجة لمسكن يؤوينا بعد قدومنا من قريتنا من اجل الدراسة رغم العوائق التي واجهتنا كان هذا المنزل في نظرنا يفوق فلة فاخرة في ذلك الزمن احتضننا في بداية تعليمنا وآوانا من صوادف الزمن وظروف الحياة الصعبة.
اقول رأيت ان التقط بعض الصور لهذا المنزل احتفظ بها واستعيد من خلالها ذكريات طفولتي وظروف حياتي في زمن يختلف كثيرا عن زمننا الحاضر وعندما دلفت لوسط المنزل رغم انها ليست المرة الأولى انتابتني مشاعر صعبة وتساءلت بنفسي كيف اتجرأ بأن أتولى هدم هذا المنزل بنفسي وانسى كل ماضيه معي هل نحن فعلا في زمن الجحود ونكران الجميل.. وقفت صامتاً لفترة من الوقت حاولت اقناع نفسي بأن الامر محتوم ولا مفر منه فقمت بالتقاط بعض الصور لعل الاحتفاظ بها يعبر عن اقل انواع الوفاء..
ولم استعجل تنفيذ المهمة وقلت لعل البلدية تتولاها نيابة عني فقد تكون اجرأ على ذلك وقد استغللت وجود شقيقاتي هذه الايام بحكم الاجازة وعرضت عليهن مع الوالدة اطال الله في عمرها فكرة زيارة منزلنا القديم لإلقاء النظرة الاخيرة عليه فكنا اسرع مما تصورت وتوجهنا مع بعض الاطفال وعندما دخلنا المنزل رأيت منظرهن جميعا يوحي بالحزن على ما سيؤول اليه مصير منزلنا القديم الذي لم يضق بنا يوماً من الايام رغم صغر حجم غرفه.. واخذن يتجولن داخله من غرفة لغرفة وهن يتذكرن اسماء الغرف وبعض المواقف اثناء طفولتهن وقالت احداهن «هذه غرفة فلان وهذه حجرة اخواني وهذا الليوان وهذه «ام لَنْبِه» وهذا المطبخ مع التنور ثم القهوة وفي اعلاها «السماوة» ودخلت احداهن احدى الغرف فوجدت كتابة اختها على جدار الغرفة «ذُبَابَة - زَرَعَ - حَصَدَ» عندما كن في بداية تعليمهن فاغروغت عيناها بالدموع وجلست تتذكر ايام الدراسة والزميلات اللاتي انقطعت اخبارهن.. حاولت ان اشد من ازرها مع انني اكثر تأثرا منها بهذا الموقف. صحيح ان تلك الايام كان فيها من القسوة والمعاناة الشيء الكثير لكنها كانت اياماً حلوة لها طعمها ومذاقها الخاص لا يعرفها الا من عاشها.
وعندما هممنا بالخروج تخيلت منزلنا يتحدث الينا مؤنباً ويقول : هل جئتم لاستعادة ذكرياتكم معي واستعادة ايام الصبا ام لإلقاء النظرة الاخيرة على جثماني بعد ان استسلمتم للأمر الواقع؟
ما الذنب الذي اقترفته حتى تكون هكذا نهايتي. هل لأني قاومت قسوة الزمن من رياح عاتية وأمطار غزيرة وهجران اهل دون ان تؤثر بي بما يدعوكم لهدمي ام لأني اصبحت موقعاً غير مألوف بالنسبة لكم بعد الفلل الفاخرة التي ترونها تفوقني في امكاناتها وتناسيتم تلك السنوات الطويلة التي احتضنتكم في اولها وعانيت من هجركم وقسوتكم في آخرها.
لقد شملتكم بدفئي شتاء وبرودتي صيفاً من دون وسائل التدفئة والتبريد فماذا قدمت لكم فللكم من دون هذه الوسائل؟! انكم تريدون هدمي جبراً لخاطرها ولم تراعوا ايامي الخوالي معكم وليتكم تقارنون كيف تحملت تلك السنوات الطويلة اقاوم الزمن فلم يسقط لي حائط او يتشقق ولم يخر لي سقف بعكس تلك الفلل التي تتغنون بها! انظروا لحيطانها وزواياها واسقف غرفها لتجدوا الفرق بعد ان تقارنوا امكاناتي وامكاناتها اثناء البناء.
واذا انتم لم تقروا الماضي لي معكم وترمموا ما ترونه يحتاج لذلك فعلى الاقل لا تتولوا هدمي بأنفسكم ودعوا الامر لغيركم فلعل لي بعض العزاء في ذلك «ومن لا ماضي له لا حاضر له». والله المستعان..
داود بن أحمد الجميل - الزلفي - الجزيرة
|