لمّا كان الفكر الخاطئ، قد انفتح بابه في المجتمع الإسلامي، منذ عهد الخلفاء الراشدين، وكان أوَّل ضحاياه الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشّره بالجنّة على فتنة تصيبه - ضمن فضائله رضي الله عنه.
فإن هذا الباب قد ولج معه أصحاب الغايات، ومن في قلبه مرض، فجاءت الحروب ضد الخوارج الذين يكفّرون المسلمين ويقاتلونهم ويستحلون دماءهم وأموالهم، وأول من رفع راية الجهاد ضدهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النهروان تلك المعركة المشهورة التي نصره الله عليهم فيها.
ثم استمر شرّهم في ذلك التاريخ، إذا قمعت شوكتهم، وفلّت جموعهم، اختفوا، كالنار تحت الرماد، وإذا وجدوا فرصة خرجوا.. والمكافحة ضدهم في الدولتين الأموية والعباسية كثيرة سجلها التاريخ، بأحداثها ووقائعها.. ورصدها الكاتبون في الملل والنحل، بشبهاتهم ومسمياتهم، واهتم بها العلماء دراسة وتعريفاً ورداً عليهم.
وما هؤلاء الذين برزت رؤوسهم في هذا الزمان، متجمعين من كل مكان، يبثّون فكراً وافداً، ويدعون الى مبادئ شاذّة، وفتن نائمة يريدون ايقاظها من سباتها، نابذين كلام الله، وكلام رسوله الكريم، وراء ظهورهم، حيث يحذّر رسول الهدى من هذا المسلك، لمن في قلبه نبضة ايمان، بقوله الكريم:«الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».. مستغلين سذاجة الصغار لجهلهم، وقاصري العلم باستنهاض حماستهم، ليوردوهم المهالك، وليجعلوا من الشباب الذي لم يدرك خطر ما يوجهونه اليه، واجهة لتحقيق ما ترنو اليه القلوب المدّبرة.. خيب الله ظنهم، ورّد كيدهم في نحورهم..
ولئن تعددت مسميات ومصادر هذا التكفير، الذي يدفع للارهاب والافساد، فإن الهدف في القديم يتفق مع الهدف الجديد، بشقّ عصا الطاعة، والخروج على ولاة الأمر، ومخالفة أمر الله سبحانه، والطعن في العلماء وطلبة العلم، والتشكيك فيما يصدر عنهم، وتمجيد من يريدونه محققاً لرغباتهم، وخادماً لأعداء الأمة وولاة أمرها.. بإذن الله.
وإن من العلاج المعين بإذن الله في التصدي لهذا الفكر الوافد، وحصره في أضيق نطاق: أولاً السير على منهج الصحابة رضوان الله عليهم، ومن بعدهم من علماء الاسلام الذين تعاملوا مع الأحداث السابقة: بحلم وعلم، وتبصير هادئ وحوار مقرون بالحجة مع كل شبهة، يقول الإمام مالك رحمه الله:«لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها» فأولها لم يصلح إلاَّ بالإسلام فهماً وتطبيقاً.. وكذا آخرها في كل زمان ومكان متى جدّت أمور بوصف نفس الدواء لها.
وفي وقتنا الحاضر، الذي نرى فيه أن كل فكر سبب لنشوء الفتنة، كما نرى وعلى لسان ذلك التائب: ان المستهدفين في هذا الفكر، هم الشباب من 15-25 سنة بمراحل دراساتهم أو أعمالهم، وبالدرجة الأولى من فشل منهم في دراسته، وخوى فكره..
وإن من اصلاح هذا الفكر، أو على الأصح توجيهه الوجهة السليمة قبل أن تتخطفه الأيدي الملوثة، فإن هناك فئاتاً يجب أن تتكاتف في رسم المنهج ومتابعته، تنمية وتوجيهاً، وتحسيناً وترغيباً.. هذه الجهات هي: البيت، المدرسة، المجتمع، مراقبة الجلساء، الإعلام.فالبيت هو الركيزة الأولى: إذ دور الأبوين والإخوة الكبار ومن في محيط الأسرة، حسن التوجيه، والقدوة الصالحة، والتعليم الأولى: تلقينا وتأديباً ومساءلة.. فيبين الحسن لحسنه وأثره، وينفّر من الشرّ لسوئه وأثره، بالأسلوب الملائم مع نمو الجسم، حتى يشعر الشاب بالمتابعة وحسن التوجيه، منذ تتفتح عيناه على ما حوله، ولا ينسى الأبوان التشجيع والتمجيد في حالة الاحسان والتقريع والتأديب في حالة الإساءة، لما لذلك من أثر ينمو مع الشاب خطوة خطوة، والاهتمام بتنظيم وقته، وغيابه عن البيت ومن يجالس والدخول تدريجياً في خفاياه الفكرية، وما يدور في مخيلته، وتصحيح ما قد يعلق بذهنه مما لا يستحسن مع توضيح مبررات ما ينهى عنه، بما يقنع. وذلك بالمحاورة والنقاش، ثم بحسن التوجيه وتوسيع مداركه.أما المدرسة فهي أمانة يجب أن يشعر بها المربّون تجاه الشباب، الذين تحملوا أمانة توجيههم في جميع مراحل التعليم من حيث القدوة الحسنة، والتوجيه الهادئ، والمنهج التعليمي لكل مادة والمفيد ليس للامتحان، وإنما للحياة كلها، مرابطين في العمل، وقدوة طيبة في التطبيق، ومحافظة بأدب وحسن سلوك، على الوقت وحسن المأخذ والاقناع في التعليم، والنزول الى مستويات الطلاب، في النقاش والتعليم مع الهدوء وحسن الخلق والشعور بالأمانة والمسؤولية.
وفي المجتمع: مخالطة حسنة، وتبصير بما يجب أن يكون عليه النافعون لأمتهم المصلحون لمجتمعهم، وانتقاد من القادرين المدركين لمسالك الشباب غير المستحسنة لتعديل الاعوجاج قبل ان يستفحل، لأن الغصون لا تلين إذا كانت من الخشب، وتعاون أفراد المجتمع في الرقابة الذاتية، ليشعر كل واحداً ان أولاد الجميع أولادهم، يهمهم جميعاً اعتدالهم وتقويمهم، ليبرز أمام الشباب أن المحسن يشاد به، والمسيء يوجّه بدون غضاضه، من أب أو أم، حيث الكل يعتزّ بهذا التعاون الاجتماعي.. على أن يدعمهم العلماء بالتأييد والنصح والارشاد، وولاة الأمر بالمتابعة والتشجيع، في اجتماعات ومناقشات بين آن وآخر.
وعلى القادرين والمدركين والعلماء في المجتمع: الاحتكاك بالشباب للغوص في أعماقهم، وتوجيههم لحسن المأخذ في التعليم والتثقيف، وما يجب الاطلاع عليه لفائدته، أو اجتنابه لسلبيته، واختيار القرناء: وكيفية قضاء الوقت، وفتح الصدر لمحاورتهم فيما يفكرون فيه، حتى يعانوا على تصحيح الفكر.
أما الإعلام بشعبه الثلاث: المرئي والمسموع والمقروء، فهو سلاح ذو حدّين إن أحسن القائمون عليه نفع وأثمر، وإن تهاونوا كان الأمر سلبياً.. ولعل فرصة تسنح بإفراده بحديث مستقل إن شاء الله.
عاقبة البغي:
جاء عند الأصفهاني أنّ بعض أهل العلم حدّث: أن سيلاً دخل الكعبة فانهدمت، فأعادتها جرهم على بناء ابراهيم، ثم استخفّت جرهم بحقّ البيت، وارتكبوا فيه أموراً عظاماً وأحدثوا فيه أحداثاً قبيحة، وكان للبيت خزانة وهي بئر في بطنه يلقى فيها المتاع الذي يهدى له، ولا سقف له، فتواعد خمسة من جرهم أن يسرقوا كل ما فيه، فقام على كل زاوية من البيت رجل، واقتحم الخامس، فجعل الله أعلاه أسفله، وسقط منكّساً فهلك وفرّ الأربعة.فلما كثر بغي جرهم بمكة، قام فيهم مضاض بن عمرو فقال: يا قوم احذروا البغي فإنه لا بقاء لأهله، وقد رأيتم من كان قبلكم من العماليق، استخفوا بالحرم، ولم يعظموه، وتنازعوا بينهم، واختلفوا حتى سلّطكم الله عليهم، فاجتحتموهم، فتفرقوا في البلاد، فلا تستخفوا بحرمة الله وحقّ بيته، ولا تظلموا من جاءه ودخله معظماً لحرماته.
فقال قائل منهم: من ذا الذي يخرجنا منه، ألسنا أعزّ العرب، وأكثر مالاً وسلاحاً.. فقال مضاض: إذا جاء الأمر بطل ما تذكرون، فقد رأيتم ما صنع الله بالعماليق.. بغوا في الحرم فسلّط الله عليهم الذرّ، فأخرجهم منه، ثم رُمُوا بالجدب من خلفهم حتى ردّهم الله الى مساقط رؤوسهم، ثم أرسل الله عليهم الطوفان.
فلما رأى مضاض بغيهم ومقامهم عليه، عمد الى كنوز الكعبة، وهي غزلان من ذهب وأسياف قليعة، فحفر لها ليلاً في موضع زمزم ودفنها. فبيناهم على ذلك، إذ سارت القبائل من أهل مأرب وعليهم مزِّيقيا وهو: عمرو بن عامر. فلما انتهوا الى مكة وأهلها، ارسل اليهم ابنه ثعلبة فقال لهم: يا قوم إنا قد خرجنا من بلادنا، فلم ننزل بلداً إلاَّ أفسح أهله لنا، فنقيم حتى نرسل روّاداً، فيرتادوا لنا بلداً يحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قدر ما نستريح، ونرسل روّاداً الى الشام، والى الشرق فحيثما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيراً.
فأبت جرهم، واعتدّوا بقوّتهم، فتهيأوا للقتال، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثم انهزمت جرهم فلم يفلت منهم إلا القليل الشديد، وكان مُضاضُ قد اعتزل حربهم، ولم يعنهم في ذلك وقال: قد كنت أحذركم هذا، ثم رحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا وادي قنوى وما حوله «الأغاني 13:104».
|