Thursday 24th july,2003 11256العدد الخميس 24 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

عندما يكون الرحيل المر عندما يكون الرحيل المر
محمد إبراهيم فايع خميس مشيط

لي صديق غبت عنه أشهراً ولما انفككت من تبعاتي تذكرته فقلت وما لي لا أجرُّ الخطى إلى هناك إلى حيث كنا نجلس ونستمتع بقضاء ساعات.. العصاري.. عندما كانت برامج التلفزيون تجذبنا ومباريات كرة القدم في الدوري السعودي تسخن الحوارات بيننا فكان محله عبارة عن منتدى فيه نلتقي.
وبالفعل اوقفت سيارتي بعيداً عن محله ثم اطلقت قدمي وسرت بين جموع السائرين في سوق «البلد» وكانت الكثرة الكاثرة التي ترد الأسواق وتعمل فيه من الوافدين الآسيويين.
وصلت إلى دكانه وكان صديقي في العادة يجلس على مكتب أنيق ليس بالفخم ولا بالكبير ولكنه يؤنقه ويرتبه ثم يستلقي على الكرسي وأمامه التلفزيون ولم تكن أصوات وحركة الشارين والبائعين تزعجه أو تضايق زائريه بل كان يجلس وكأنه يملك كل المحلات في هذا السوق التجاري العتيق.
وكان عنده عامل من الجنسية الهندية عندما كنت أصل إلى المحل كان يهرع إلى استقبالي وفي ثوان كان يضع أمامي مشروباً ساخناً استلذ بشرابه مع صديقي أو معه، إذا كان «عمه» غائباً وكم عمل على تكسير لغتي من خلال أحاديثي معه ومجاراتي له.
أعود بعد هذا الوصف لأكمل لكم زيارتي بالأمس لصديقي الذي غاب عني وغبت عنه شهوراً لو جمعتها لأكملت عامين ونيفا. لم يكن الجو كما اعتدته فالمكتب المتواضع لم يكن في موقعه ولا العامل الآسيوي كان بداخل المحل وتبادر إلى ذهني بأنني قد أخطأت العنوان فخرجت لأقرأ «لافتة المحل» فإذا هي هي التي أعرفها بألوانها وأضوائها فعدت مرة أخرى لأدخل المحل والدهشة تملأ اطراف وجهي فقلت «لعامل المحل» أين عمك، ومن أنت؟ وأين دلوار؟ ودلوار هذا الهندي السابق فقال: مين تبغى صديق: فقلت: أليس هذا محل.. فقال وقد برقت عيناه محل.. أوه.. صديق هذا مات في سيارة سبعة شهر هو فيه موت. ساعتئذ شعرت بأن أركان المحل تدور أمامي وهي تزداد سرعة وعندما شعرت باغماءة المفاجأة من هول الصدمة قلت.. مات قال، أيوه صديق فسحبت الكرسي القريب مني ثم قلت الله اكبر وقد رددتها ثم رددت عزاء المؤمنين الصابرين.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. بعدها وقفت وقد تمالكت شيئاً من قوى جسدي وسرت لخطوات داخل المحل الذي شهد كلامنا وسمع حكاياتنا وردد ضحكاتنا وجمع اصحابنا وعاش ذكرياتنا كنت انظر إلى أركان المحل فأتذكر انه هنا وقف مع زبون وهناك كان يعلق لوحة الفريق الذي كان يعشقه وفي هذه الزاوية كان التلفاز وفي هذا المكان كان مكتبه وخلفه مقعده الذي يزينه بالسجادة وعلى يمينه كرسي لمن يزوره وفي درج مكتبه كان يضع طلبات منزله وحلوى أبنائه ووو..
الله ما أقسى الموت: وما أشد ألمه على النفس وكم للفراق لوعة تدمي القلب وكم الموت يترك للإنسان مراكب للحزن يسافر معها إلى سنوات خلت ليتذكر أحداثاً ومرويات كانت ولكنها اليوم تشكل مشاعره وأحاسيسه في قوالب من الألم ومرارة الوداع وبخاصة إذا كانت الشهور قد فصلت بين الأصدقاء وعندما بحثوا عن بعضهم لطمتهم مفاجأة الرحيل كما حدث معي وهذا الصديق الذي لم أعد أملك له سوى دعوات الرحمة والمغفرة وأبيات بت أتمتم بها وأنا أغادر «محله»..


هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved