كان جالساً في مجلس حكمه، ورجال دولته أمامه، وقد سيطرت على المكان مهابته، وملك قلوب الحاضرين وقارُه ورزانتُه، وكان يكثر من السؤال عن أحوال الرعيَّة، ومن الوصايا إلى وزرائه وامرائه أن يرعوا الأمانة التي يحملونها، ويذكرهم دائماً بمسؤوليتهم أمام الله عز وجل في إقامة شؤون الناس على العدل والإنصاف، ويحذرهم أشدَّ التحذير من ظهور المعاصي والآثام، ومن انتشار شرب الخمور بين الناس، ويؤكد لهم أنَّ ذلك من أسباب الفتك بالاستقرار والأمن في المجتمعات البشرية.
رجلٌ ذو مهابة ومكانة وورع، بطلٌ من الأبطال تعرف ميادين الكرِّ والفرِّ إقدامه وفروسيتَه، ويعرف نَقْع المعارك لمعان سيفه البتَّار، توجَّه إلى الهند ذات المساحات الكبيرة، والممالك العظيمة، ومعه جيشٌ يقتدي بقائده في الصلاح، وما لبث إلا زمناً غير طويل حتى استطاع أن يفوز بلقب «فاتح الهند»، ويعرف عند كثير من الناس بصاحب بلاد غَزْنة، فتح الهند، وفتح لها أبواب الخير، والعدل، والدعوة إلى الإسلام، وأبواب الإحساس بقيمة الحياة مع الاستقامة والصلاح.
ولم يكن يهمل شيئاً من أمور المنحرفين عن جادَّة الطريق، والمبتدعين المغالين في الإسلام، كان رستم بن علي الدَّيْلميّ في بلدة الرَّي متسلِّطاً على الناس مع آلاف مؤلفَّة من أهل طائفته، فلم يتركه الملك «محمود بن سبكتكين»، بل بادره بالمواجهة وخاض معه معارك، وقتله فوجد لديه ألف ألف دينار «مليون دينار» ومن العجائب التي وجدها عنده، أنه كان متزوجاً من خمسين امرأة، وله منهن ثلاثة وثلاثون ولداً بين ذكر وأنثى، وكان رستم يُجيز هذا الفعل الشنيع في رأيه.
عندما فتح الهند رأى فيها أصناماً كثيرة منصوبةً تُعبد من دون الله، وبعد أنْ استقر له الأمر، وقويت دولتُه، وأمسك بزمام الأمور، بدأ جولته في كسر تلك الأصنام، حتى كسر صنماً كبيرا شهيرا عندهم اسمه «سومنان» وقد بلغ ما حصل عليه من حِلْيةِ هذا الصنم عشرين ألف ألف دينار من الذهب «عشرين مليوناً»، وهذا يدلُّ على مدى تأثر عامة الناس بما يروِّج له أصحاب العقائد المنحرفة من مذاهب يستنزفون بها أموال العامَّة باسم العقيدة المنحرفة.
كان محمود بن سبكتكين «الغزنوي» كما يقول الحافظ بن كثير، صاحب ديانة وصيانة، لا يألف شيئاً من المعاصي، ولا يحب الملاهي وأصحابها، وكان لا يجسر أحد على إظهار معصيته أو شربه للخمر في مملكته بالرغم من سعتها، وكان يقرب العلماء والمحدّثين ويكرمهم، ويجالسهم ويحب أهل الخير والدين والصلاح، ويحارب أهل البدع المنكرة حرباً شعواء، ويرى أنهم سببٌ في نزول البلاء بالمسلمين.
ومما ينقل عنه المؤرخون قصة عجيبة تقول: جاءه رجل من الرعية ذات يوم وقد بدا على وجهه الخوف والهلع والغضب، وشكا إليه ما يجده من ابن اخت السلطان «محمود»، حيث إن ابن اخته شاب طائش مغرور بمكانة خاله، وكان قد رأى امرأة هذا الرجل فأعجبته، فصار يأتي إلى داره في بعض الليالي ومعه بعض رجاله فيدخل الدار عنوةً، ويخرج الرجل منها ويظل في الدار مع زوجته بالقوة والغصب، وشكا الرجل حالته إلى بعض الوزراء والقضاة فلم يصل إلى شيء، فظلّ يجتهد في الوصول الى السلطان حتى وصل إليه، فلما أخبره بحال ابن اخته، حزن حزناً عظيما وغضب، ثم قال للرجل: حسبي الله ونعم الوكيل، هذا ما لم أكن أتوقعه، وطلب منه أن يعود إلى منزله وقال: انتظر حتى إذا جاءك ابن اختي على عادته وأخرجك من دارك تعال إلى القصر في اي وقت من الليل أو النهار، ثم نبَّه الحرس إلى ذلك، وقال: إذا جاءكم هذا الرجل في أي وقت فأدخلوه عليَّ، وما مرَّ إلا يومان حتى جاء ذلك الشاب الطائش على عادته واقتحم الدار وأخرج الرجل منها، فتوجه إلى الملك «محمود بن سبكتكين» وأُدخل عليه بعد أن أوقظه الحرس من نومه، وأخبره بوجود ابن اخته في الدار فخرج السلطان معه متنكراً ولما وصل إلى دار الرجل دخلها، فوجد سراجاً موقداً ورأى ابن اخته فيها، فهجم عليه وأطفأ السراج ثم احتزَّ رأس ابن اخته وصرخ بصاحبه الدار اسقني ماء، ولما شرب الماء حمد الله ان مكنَّه من تنفيذ ما يستحقه الجاني بنفسه، وسأله الرجل على استحياء ووجل: لماذا يا سيدي أطفأت السراج، وطلبت الماء بهذه الصورة، قال: أما إطفاء السراج فحتى لا أرى وجه ابن أختي فتأخذني الشفقة عليه، وأما طلب الماء، فإني والله منذ أبلغتني بشكواك لم أُسِغْ طعاماً ولا شراباً، فأنا ظامئ، ورفع الرجل يديه إلى السماء ودعا للملك دعاءً صادقاً بالتوفيق والنصر والتأييد، وكانت هذه الحادثة مما زاد من توطيد دعائم الاستقرار في مملكة الهند العظمى، ومن مكانة الملك «محمود الغزنوي» «ابن سبكتكين» رحمه الله .
وله من النوادر والأخبار ما يحسن نقله وروايته، لأنه يكوِّن صورةً مضيئةً في فترة مضيئة من تاريخنا الإسلامي العريق.
إشارة:
بالرغم من يأسي فنبَعُ الرضا
في خاطري يُعطي ولا يَنْضُبُ
|
|