إن شعوب هذه المنطقة عاشت حياة هادئة مستقرة على مدى سنوات طويلة تقرب من المائة عام بعد إخماد نار الفتنة والفرقة والتناحر وفقدان الأمن وانتشار الجهل التي عانت منها حقبة من الزمن، فلقد تطورت خلالها تطوراً ملموساً على نطاق واسع وبدرجات متفاوتة في مجالات التقدم وقد فرضت فاعلية العصر وطبيعة التعايش معه أوضاعاً جديدة على البيئة العربية حيث تغيرت أحوال وتطورت مجريات الأحداث على غير ما ألف عليه في السابق مما كان له أثر على الساحة العامة في بلدان منطقتنا، أحداث ومشكلات لم تكن معهودة من قبل في سالف حياتنا الماضية.
إن بلاد الحرمين الشريفين تحتضن المواطن والمخطئ إذا رجع عن خطئه وتفتح ذراعيها للوافد إليها ليعيش الجميع فوق أراضيها مستظلين بفيء الأمن والطمأنينة، وهذا ما أكد عليه وزير الداخلية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز حفظه الله عند استقباله لأحد أولياء المطلوبين أمنياً قائلاً «... إن ما حدث لا يقلل من قيمتكم في نفوسنا فمكانتكم محفوظة في قلوبنا ومن أخطأ فعلى نفسه ولا تزر وازرة وزر أخرى، هدفنا الإصلاح والتقويم وليس العقوبة...» وفي حديث صحفي آخر لسموه قال انني أدعو علماءنا ومشايخنا ومفكرينا وخطباء المساجد أن يحثوا من كان لديه مثل هذا التفكير الإجرامي أن يمتنع ويعود إلى الصواب ويحاسب نفسه ليعود مواطناً صالحاً وليس أداة للإساءة لبلاده.
لقد حصل تصدع في بناء المجتمع الإسلامي بسبب جهل بعض أبنائه، فكانت الفتنة نائمة فأيقظها البعض من المدعين للعلم حيث نصبوا من أنفسهم قضاة وعلماء ومتخصصين في الفتيا وفي كل صغيرة وكبيرة، وكثير منهم ابتعدوا عن الوسطية والاعتدال التي هي موجودة في سلوك الصحابة وأئمة الإسلام الذين من سماتهم النهج الوسطي الذي هو نهج الشريعة الإسلامية المتفق مع العقل السليم فالشرع بنصوصه وقواعده واجتهادات علمائه يدعو إلى الوسطية والاعتدال وينهى عن الغلو والمبالغة، والإسلام يدعو إلى الإخاء والمحبة والتعايش والتعارف والتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة المحسنة، وأيضاً الرفق والرحمة واللين، والإسلام لا يدعو إلى العنف والتدمير وإهلاك الحرث والنسل، والله سبحانه وتعالى يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ }.
لقد أكد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني عند افتتاح فعاليات اللقاء الوطني للحوار الفكري المسؤولية الكاملة على كل مخلص من أبناء هذا الوطن وكل ذي لب للتصدي لعوامل التنافر والشقاق والعداوات سواء من العصبيات القبلية، أو النعرات الإقليمية، أو الاختلافات الفكرية أو أي شكل من أشكال الغلو أو التطرف، إضافة إلى تأكيد سموه على أهمية الحوار الهادئ المنظم الذي يرتكز على احترام الرأي الآخر وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي والمناقشة في إطار من الوسطية والاعتدال والتعايش مع التنوع الفكري.
إن مقتضيات العقل السليم يستلهم من هذا التوجيه ان حياة الناس لا تستقيم إلا بهذه الوسطية، والحوار الهادئ المقنع لأن الانحراف عن الجادة بغلو أو جفاء لا يكون معه العيش مستمراً، كما يجب علينا أن ننظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» وعلى المسلم أن يكون رفيقاً في الإرشاد والوعظ كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }. ، كما يجب على المسلم أن يكون رفيقاً في تفكيره، في مقاصده، في أطروحاته، لذا فالوسطية في الدعوة مطلوبة، وتحتاج إلى ترتيب وتنظيم وتعاون على البر والتقوى، فالفوضوية منبوذة وليس لها موقع في شريعتنا الإسلامية والتحزم بحزام الجدية ونبذ الاختلافات الفكرية أو أي شكل من أشكال الغلو والتطرف في الأفكار أصبح أمراً تفرضه المصلحة الوطنية، لأن ذلك يقفل الباب أمام أعدائنا، ويجعل الحكمة والهدوء والحوار الهادف البناء منهجنا وغايتنا التي بها نتجنب إن شاء الله الشقاق وبها نبتعد عن الخلاف الذي لا تستقيم معه الأمور ويخلخل وحدة الأمة ووحدة الكلمة، ولهذا يجب ان ننظر بعين ثاقبة بالابتعاد عن التعصب الفكري والمبارزات الكلامية وأجواء الصراع والنزاع وإجلال الحوار العقلاني، وإشاعة ثقافة التسامح التي تضمن استمرارية وحدة البلاد والعباد التي هي من أهم القضايا وأكثرها حساسية وهي أساس الاستقرار الذي لا يستطيع أي مجتمع أن ينمو ويتطور في جميع المجالات دونه وإن المجتمع دون وحدته الوطنية المستظلة بالفيء الإسلامي سيكون شراذم متحاربة تتفشى بينهم الأمراض المهلكة من كل جانب، ويجب أن نأخذ في الاعتبار ان الخلافات الجانبية تكون طبيعية وموجودة حتى في المجتمع الصغير «أفراد لأسرة الواحدة» لذا ينبغي أن تسود المحبة والإخاء بين أبناء المجتمع وتوسيع دائرة المشاركة في الحوار من جميع شرائح المجتمع بحيث يستفاد من ذلك لدراسة الكثير من القضايا الوطنية والتنموية المهمة التي تعالجها تلك اللقاءات، وتتيح لكل من له رأي معين يرغب أن يطرحه في ظل القوانين والقيم التي تحكمنا وما يخدم الصالح العام بعيداً عن النزاعات الفكرية، وبالتالي فإننا نحقق وحدة الكلمة ووحدة العباد والبلاد.
إن الإسلام يرفض الإرهاب الذي يقود إلى قتل الأبرياء والى التخريب والدمار في الممتلكات العامة والخاصة وجر البلاد والعباد للقلاقل والفتنة، لأن ذلك عامل هدم وخوف وفساد وتخلف في كل مظاهر التنمية، ولذلك فإن هذا السلوك الإجرامي محرم في الإسلام على الفرد والجماعة. وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تحرم مثل هذه الأعمال قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } وقوله تعالى: {وّمّا كّانّ لٌمٍؤًمٌنُ أّن يّقًتٍلّ مٍؤًمٌنْا إلاَّ خّطّأ}.. {وّمّن يّقًتٍلً مٍؤًمٌنْا مٍَتّعّمٌَدْا فّجّزّاؤٍهٍ جّهّنَّمٍ خّالٌدْا فٌيهّا وّغّضٌبّ اللهٍ عّلّيًهٌ وّلّعّنّهٍ وّأّعّدَّ لّهٍ عّذّابْا عّظٌيمْا} الإسلام يحارب القتل والسرقة والحرابة والغدر ووضع لها العقوبات الرادعة لحماية الناس والمجتمع من أخطارها وشرورها، والإسلام يحرم انتهاك الأعراض والحقوق والأموال ويحرم ترويع وإخافة المسلم، فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم «لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم». ديننا الإسلامي يدعونا للعمل والعلم والإنتاج ومن خلال التسلح بسلاح العلم والمعرفة، والحوار البناء، وامتلاك مقومات القوة والعزة اقتصادياً وعسكرياً وتعليمياً والسعي الجاد لتفعيل برامج الإصلاح إلى برامج عملية تحقق التوازن في تطور جميع مناطق ومحافظات هذا الوطن الغالي، مع أهمية تدبر آيات الله واتباع هدي نبينا عليه الصلاة والسلام وصحابته الراشدين في أمورنا وأعمالنا وسلوكنا كافة. والله الهادي إلى سواء السبيل * مجلس الشورى
|