في مثل هذا اليوم قبل ثلاثة أعوام انتقل والدي الفريق يحيى المعلمي الى لقاء ربه، وهو لقاء طالما تطلع اليه والدي بشوق.. فلقد كان ايمانه بالله عميقا، وبرحمته عظيما، وبأنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا.. والحمد لله.. فلقد شهد الخلق لوالدي بحسن العمل وأعلنوا حبهم له، وأرجو الله جلت قدرته ان يكون في ذلك علامة على حب الله لوالدي.
لم يمض يوم منذ الثالث والعشرين من جمادى الأولى عام 1421هـ دون ان استذكر سيرة والدي وأراجع شيئا من أقواله أو كتاباته أو أعماله.. لم يمض يوم دون ان أدعو له بالرحمة والمغفرة وبأن يجمعني الله به في جنات النعيم.. لم يض يوم دون أن أناجي طيفه أو أتخيل مواقفه وردود أفعاله على ما يمر بي وبأسرتي وبوطني وأمتي من أحداث أو أفراح أو أتراح..
تخيلته عندما احتفلنا قبل عام ونيف بولادة حفيده يحيى بن عدنان.. الذي حمل اسمه فأصبحنا نلقبه تحببا بالجنرال.. وبكيت عندما حملت بين ذراعي حفيدي عبد الله بن فارس لأنني شعرت لحظتها بحبه لهذا الوليد الذي لم يره.. ورفعت رأسي نحو صورته عندما احتضنت حفيده عبد الله بن عماد قبل بضعة أسابيع.. واختلت فخرا عندما تصفحت أوراق كتاب أبناء نجباء الأبناء للإمام الفقيه ابن ظفر المكي الذي قام والدي بمراجعته والتعليق عليه قبيل وفاته وتكفل نادي مكة الثقافي الأدبي مشكورا بطباعته ونشره مؤخرا، وحاورته في خيالي حول كثير من الأخبار والأحداث والمواقف، وتصورته باسما تارة ومستاء تارة أخرى، ومتأملا مرة، ومتفائلا كعهده مرات.
وقبل أيام نقل الينا الرائي نبأ تعيين الفريق سعيد القحطاني مديرا للأمن العام.. فزففت الخبر الى طيف والدي واحسست بابتسامة رضا وفخر تعلو محياه.. وتخيلته يحدثني عن المعاني التاريخية المرتبطة بهذا التعيين وينبهني الى ان الفريق القحطاني هو أول مدير شرطة يصل الى قيادة الأمن العام، وهو أول مدير للأمن العام يصل الى هذا المنصب من داخل الأمن العام منذ أكثر من أربعين عاما، فبعد الفريق احمد يغمور تعاقب على ادارة الأمن العام عدد من القادة جاءوا جميعهم من خارج قطاع الأمن العام، ومع ان والدي قد ارتبط بعلاقة وثيقة من الاحترام المتبادل ورفقة العمل المتميز مع الفريق أول محمد الطيب التونسي رحمه الله ومع انه كان يشعر بالاعتزاز بكون الفريق اسعد الفريح قد وصل الى هذا المنصب بعد ان كان والدي أول من استشف كفاءته حين اختاره للعمل معه في شرطة النجدة، إلا أنه كان كثيرا ما يتطلع الى ان يتولى قيادة الأمن العام رجل امن متخصص، ولا اخاله اليوم الا مبتسما لتعيين الفريق القحطاني الذي بدأ حياته العملية ضابطا برتبة ملازم في ادارة الأمن الجنائي تحت قيادة رئيسها آنذاك العميد يحيى المعلمي.. تخيلت نفسي اسأله عما اذا كان يتذكر الفريق القحطاني، وتصورته وهو يعاتبني لأني احرجه بسؤال كهذا ويتهرب من الاجابة بأن يسألني عما أعرفه عنه، فأقول له لقد عرفت الفريق القحطاني خلال العامين الماضيين، فرأيت فيه مثالا للجندي المنضبط، واسرع لأوضح ان اجمل صفة يفتخر بها العسكري هي ان يوصف بالجندية ووجدت فيه سمات الخلق الرفيع، والانفتاح الفكري، والكفاءة الادارية، والحس العميق بالواجب، وانكار الذات، والبعد عن الضجيج والأضواء.. وهي كلها سمات تبشر الأمن العام بنوعية متميزة من القيادة الجادة وحسن الأداء.
ان من أكثر ما يسعدني ويشرح قلبي هو أن التقي باخوة كرام من أبناء قوات الامن الداخلي ضابطا وافرادا فيبادروني بذكر والدي والترحم عليه والاعتراف باستاذيته وأبوته لهم، او بما مثل لهم من قدوة صالحة، وما تركه لهم في قطاعات الشرطة والمرور والنجدة والسجون وغيرها من قواعد عملية وبرامج تنفيذية شكلت اساسا بنى عليه وطوره واستكمله هؤلاء الرجال الأوفياء، فلقد كان والدي رحمه الله أول من جعل للشرطة دورا ثقافيا وأول من أسس في الأمن العام مكتبا ثقافيا وادارة للعلاقات العامة، وأول من أدخل الى الشرطة برامج لمحو الأمية بين الجنود، وهو أول من أسس شرطة النجدة وأول من وضع نظاما للمرور، وأول من أدخل الاشارات المرورية الضوئية، وأول من اطلق شعار أن يكون في كل سجن مدرسة ثم حوله لأن يكون كل سجن مدرسة، وأول من استخدم تعبير «النزلاء» بدلا من المساجين، وأول من أدخل العديد من التقنيات الحديثة الى قطاع الامن مثل تحويل رخص القيادة من دفاتر الى بطاقات يتم تصويرها فوريا، ولعله كان أول ضابط يحصل على درجة الماجستير في ادارة الشرطة من الولايات المتحدة الأمريكية، وأول ضابط يمارس التدريس في معهد الادارة العامة، وغير ذلك من الانجازات التي ما كان يمكن لها ان تتم لولا الدعم والتوجيه والاسناد الذي حظي به والدي رحمه الله من قيادات الأمن في بلادنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين حفظه الله حين كان وزيرا للداخلية، وصاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية، وصاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية.
مرحبا بالفريق القحطاني في موقعه المتميز.. وهنيئا له باجماع الناس على الترحيب باختياره لهذه المهمة الصعبة في هذا الوقت الحرج.. ودعاء له بأن يمده الله سبحانه وتعالى بالعون والتوفيق والسداد.
اما أنت يا والدي فنم قريرا هانئا بأنك تعيش دوما في ذاكرتي وذاكرة ابنائك وأحفادك وأسرتك في هذا اليوم وفي كل يوم.. وبأن حبك ومكانك في قلوبنا يزداد تجذرا وان سيرتك في خواطرنا ونفوسنا تتضوج عطرا.. وان ذكرك لدى محبيك واصدقائك وزملائك وتلامذتك وجنودك يملؤنا فخرا وعزا.. رحمك الله يا والدي.. ووسع لك في قبرك.. وأسكنك فسيح جناته مع الأنبياء والشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيقا.
{انا لله وانا اليه راجعون}
|