ما من زعيم أوحد، ينتزع الحكم من سلفه على صهوة دبابة أو على متن طائرة، إلا ويقدم مشروعه الأشمل والأكمل، قائماً بالقسط، مشتملا على الوحدة والحرية والقومية و(الديموقراطية)، مع وقف التنفيذ، لتظل الوعود مشروعا يرقب ثائراً جديدا. وكلما دخل زعيم قصر الرئاسة، أنحى باللائمة على سلفه، ومع أن بعض الثوريين توفروا على فسحة من الوقت، وكثير من الإمكانيات، وطوفان من الجماهيرية، إلا أن إثمهم أكبر من نفعهم، كما الخمر والميسر، ومن شذ كرَّس القاعدة. ومدار حديثنا على النتائج، لا على الأفراد، ومن ساءه قولنا، فليستفت عمله. ومن نظر بعين الناقد الناصح، أو الشامت الفاضح، أيقن أن الأجواء العربية متخمة بالخطابات العاطفية، والمجاملات الرسمية، المستهلة بكلمة (الأشقاء) و(الشقيقة) وما زادتنا المداراة والمداهنات في كل سنواتنا العجاف إلا خسارا، ولقدسمعنا من (عراقيِّي) الشتات والأرض المحروقة من ينحي باللائمة على الصمت المريب، أو المجاملة الخائفة، لحاكم استذل العباد، أو لتحالف احتل البلاد. والواقع العربي المعاش خير شاهد على الخسران المبين، وعندما لا تكون المصائر بصائر، تتردى الأمة في مهاوي الهلكة.
والمشهد السياسي العربي إذا خلا له الجو، علا هديره الفارغ، وإذا سمع هيعة تحول هديره إلى رغاء، وهكذا دنيا العروبة زئير ومواء. وصخب خطاباته الفكرية والحزبية والطائفية والإقليمية طابعها الزيف، وسمتها التمويه، ونتائجها التناحر والتدابر، لأنها تجنح إلى ما يكرس الفرقة، ويغذي الخوف، ويبعث الارتياب. و(الحقائق) حسرات في أعماق الشعوب، و(الفرائض) مقموعة بسياط التسلط. وما لم تلتق الأطراف بعد كل هذه المحن والإحن على (البساط الأحمدي) لمواجهة الذات بكل هناتها فإن قضايا الأمة ستظل معلقة، لا مضمومة ولا مطلقة. وحاجتها اليوم ليست في تفتيش الدفاتر القديمة، ولا في تجريم المراحل الذاهبة في الغابرين، حاجتها في أن تعترف بكذب وعودها، وخسارة رهاناتها، وفشل تجاربها، وفي تقبل هزائمها بروح عالية، وتفكير سليم، وتقدير دقيق، وفي بدء حياتها من درجة الصفر، نافية ملفاتها الماضية بكل وضرها إلى غير رجعة، مستحدثة ملفات جديدة. والنحيب على البلوى لا يرد قضاء، ولا يشفي غليلا، وما دامت أمام قادة الأمة فرص ممكنة، فإنه لا يليق بها أن تمشي مكبة على وجهها. وأجزم أن بإمكان الناصحين أن يبادروا إلى العمل النصوح، وأراهن على أن الخيرية في هذه الأمة قائمة إلى قيام الساعة، وأنها بانتظار من يملك تلقي الراية باليمين ليتخطى بأمته سوياً على صراط مستقيم. والبداية الصحيحة صعبة المراس، ولكنها ضرورية، وإذا لم نخط الخطوة الأولى على الطريق القاصد، بطا بنا التخويف، ولم يسرع بنا التسويف. وإذا لم نستشر، ونستخر، ثم نعزم ونتوكل تدخلَّ القويُّ: عدةً وعتاداً، لترتيب بيتنا العربي على عينه. وبعض القادة الناصحين يدركون أن (البيت العربي) مبعثر الأثاث. وانتظار الخوارق لترتيبه دروشة واتكالية، وترتيب الغير له بالوصاية سبة ومذلة. وقبول التشتت، ومزيد العبث، والقابلية للَّعب السياسية، تغري القوى المتغطرسة التي تدعي الضرر وحق التدخل بدعوى تحرير الشعوب من أبنائها بتنفيذ ما تريد، وما هي إلا صانعة اللعب المدمرة واللعب المضادة. ولقد بدت سابقة التدخل العسكري، ولم تزل في الجعبة بقايا للضربات الاستباقية أو الوقائية، لمن لا يملكون كشف الضر عن أنفسهم ولا تحويلا. والمؤكد أن استفحال التدهور لا يصيب الذين وقعوا فيه خاصة، فالعالم اليوم متداخل، كما أهل قرية خائفة مضطربة، تهوي عليها مصائبها من كل مكان. والنمو الاقتصادي الذي تتطلع إليه دول العالم، يتطلب أوضاعاً مستقرة، توفر الأجواء الملائمة للعمل والإنتاج، وعودة الأدمغة المهاجرة ورؤوس الأموال المتسربة. والانتعاش في أي بلد يمتد أثره كالرياح اللواقح، كما أن الانكماش يعصف كالريح العقيم، بحيث تطال الظاعن والمقيم. والعالم اليوم يشكل شبكة عنكبوتية معقدة، سريعة الاستجابة والتداعي. ولقد كنا منذ الخمسينيات نعيش تحت وابل الخطابات الوحدوية والقومية و(الديموقراطية) والحزبية، نخوِّن بعضنا، ونعد بتصدير المبادئ الثورية، المحبرة على الأوراق، مما دفع البعض إلى الاحتماء بالأقوياء. ولما تتقدم الأمة المأزومة خطوة واحدة من فيوض الكلام إلى شواهد العمل. وإذا كان الوضع العربي على مختلف الصعد يؤكد أننا نقول بألسنتنا ما ليس في قلوبنا، فإن بوادر الخلاص تبدأ من الشفافية، والمكاشفة، والتنادي إلى كلمة سواء. أو التعاذر، والتبصر بالذوات، والارتداد إلى الدواخل، للعمل الجاد، وصناعة الإنسان، وإصلاح ما أفسده الأقربون. فهذا أو ذاك بعض الإرهاصات المناسبة للوحدة، أو لما دونها من التعاون على البر والتقوى.
ومما لا شك فيه أن هاجس الإنسان العربي يتمثل في وحدة تقوي جانبها، أو في تعاون ينمي اقتصاده، أو في تعاذر يصرفه لمصالحه. والوحدة لا تتم بين عشية وضحاها، إنها عمل إصلاحي، لابد له من تضحيات وضحايا، وتنازل وإيثار، وعمل رفيق لمعالجة الواقع، ومواجهة النوازل، واستلال المعوقات، كما تسل الشعرة من العجين، وبخاصة في بداية العمل التقاربي الصادق. وكل ذلك أو بعضه لن يتأتى عن طريق الشعارات الزائفة، والهتافات الفارغة، والمظاهرات الهوجاء، أو الخروج على الشرعية، ومنازعة السلطة، والتناجي بالإثم والعدوان في الأقبية والكهوف، أو التطرف في القول، والإرهاب في العمل، والغلو في الاعتقاد. والأمة المتخمة بالمعوقات المفتعلة بحاجة إلى مؤسسات مدعومة بالأهلية والكفاءة والإمكانيات والصلاحيات، لتعالج الأمور بهدوء وطمأنينة، وطول نفس، وبعد نظر، تدبر وتقدر، وتوقت وترتب، لا تتملق الرأي العام، ولا تغرر به، ولا تزكي نفسها، ولا تسمو فوق المساءلة والمحاسبة والنقد. وكل عمل مصيري بحاجة إلى مطابخ هادئة، ذات دربة ودراية، تنضج المشروع ببطء، وتأخذه بحلول مرحلية لا فورية، وبقرارات ذاتية لا شرقية ولا غربية، تناسب الوضع القائم، وتلائم الإمكانيات المتاحة. ولما لم تكن هناك أجواء ملائمة، كان لابد من التنقيب عن مال وتمويل، وخبرات ومواهب، وإمكانيات وقدرات، وعلم وطاقات، لتكون أرضية الانطلاق صلبة. وكل من ركن إلى الخطابات المثالية والدعاوى والوعود المستحيلة، حرم أمته من اللحاق بركب الحضارة. والمشاهد السياسية بوصفها البوابة الأولي لأي عمل مشترك تنقصها المصداقية، وتعوزها العزمات فالإنسان العربي عاش خيبات الأمل، وتجرع مرارات الفشل، في كافة تجارب التقارب، وفي كل المواجهات الحضارية، وشهد زيف المشاريع، ونكسات الحروب، وتصور حملة الكتاب الذين لم يحملوه:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول
|
ومن الصعب والحالة تلك إقناعه بقبول الوعود أو التطلعات. وحين لا يطمئن، لا يزيد أمته إلا خبالا، تاركاً أثر سلبيته على الجبهة الداخلية، وحاجته في ظل هذه الأجواء النفسية السيئة إلى الوعود المتواضعة الممكنة، ليتحول من شكوكي رافض إلى مطمئن واثق. والوحدة الشاملة أو الجزئية التي تحلم بها الأجيال، لن تتحقق في ظل الأوضاع القائمة، فالاحلاف العربية مختلفة، والمصالح متعارضة، لانتماءات ولهويات متعددة، وأنماط الحياة متفاوتة، والمستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية متباينة، والدساتير والأنظمة والقوانين متنوعة المرجعية، ومناهج التعليم ومواده متناقضة، والحدود مصنمة، والشخصيات مقدسة، والأفعال مزكاة، ولما يلح في الأفق أي تصرف صادق للوحدة، على الرغم من وجود المقومات اللغوية والعقدية والحضارية والإقليمية والتاريخية. والخطاب الإعلامي بوصفه الوسيط والشارح والمقنع استهلك أقنعته، وانتهت صلاحيته، ولم يعد المصدر الأهم للمعلومة، ولا المؤثر الرئيس في تشكيل الذهنية، وتهيئتها لقبول التغيير، ولهذا فإن استمراره يشكل مزيدا من الأعباء والفرقة، وكان بالإمكان تحويل مؤسساته القائمة إلى القطاع الخاص، ليأخذ موقعه مع سائر القنوات والمؤسسات الوطنية، متخلصا من التزامات الدولة ومداراتها. ذلك أن الإعلام المخصخص يملك مساحة من الحرية، تمكنه من تناول القضايا عبر هوامش واسعة، لا تؤثر عليها التزامات الدولة ولا عهودها ولا صداقاتها ولا مصالحها القطرية. وإذا كان للدولة رأي أو تصور فإن بإمكانها أن تبديه في ساعة من نهار البث. وتفكير الدولة بتحويل قنوات الإعلام إلى مؤسسات مستقلة خطوة موفقة، فالدول المؤسساتية الدستورية بحاجة إلى لسان الحال لا إلى لسان المقال. والدولة التي تهفو إليها أفئدة الملايين من واجبها أن تغض الطرف، كلما بدت لها سوآت الآخرين، وأن تمر باللغو مر الكرام.
وبصرف النظر عن الإعلام الرسمي، وكونه عقبة في طريق الوحدة المرتقبة، فإن ثمة أنكر الأصوات صوت (القنوات الفضائية)، التي دخلت الحرب الباردة بألسنة حداد، وببائعين للقدرات البلاغية والإمكانيات الإعلامية الجذابة، وهي بجناياتها أو بجنايات بعضها تفسد في ساعة ما يفسده الإعلام الرسمي في سنة، وتلك نوابت سوء، امتدت ريحها العقيم إلى الشعوب، بحيث أصبح التلاحي بين أفراد الأمة، لا بين كياناتها السياسية. لقد اقترف الموغرون للصدور خطيئة التنقيب في الخلفيات التاريخية، بين المذاهب والمعتقدات والعرقيات، ومشاكل الحدود والأقليات، والسعي الدؤوب لإيقاظ الفتن النائمة، وممارسة صراع الديكة، بين فضوليين أضوائيين، تفلتت سرابيات الادعاء من بين أيديهم، فانطلقوا لا يتخافتون، وإنما يجاهرون بالعداوة والبغضاء، لإذكاء الضغائن، ونبش الدفائن، وذلك لا يعوق مشروع الوحدة وحسب، وإنما ينسف الجسور، ويوسع الفجوات، ويعمق الخلافات، ويحفز على المواجهات، وأرجو أن تكون الفضائيات موجات تلهث وراءها موجات، لتتلاشى دون سواحل التقارب وشطآن التعاذر، وما ذلك على الله بعزيز.
ولأن الوحدة تتطلب أجواء ملائمة من الوفاق والتسامح وتناسي ما فات من ويلات وإساءات، وتقتضي تنازلات تطال السياسة والساسة والوطن والمواطن وسائر وجوه الحياة فإنه من المستحيل أن تتحقق في ظل إحياء النعرات الطائفية والقطرية والحزبية والقبلية و(الإثنية)، وتغني كل قطر بليلاه، ومن المتعذر أن يتحمل المواطن قسطا من متطلباتها، ثم لا يراها ماثلة للعيان، مؤدية إلى القوة والتلاحم، مقيلة لعثرة الأمة، صادة عنها عوادي الزمن.
ومن تصورها سهلة انسيابية دون أي معارضة من الداخل أو عقبات من الخارج فقد وهم، فالوحدة لا تتحقق إلا بالقضاء على مسلمات وسوائد وقناعات يحسبها الدهماء من الثوابت. وكل إصلاح تمارسه أي سلطة، لابد أن يطال مصالح من الصعب التخلي عنها، وأن يمس مصلحيين من الصعب تنازلهم عن غلولهم. والوحدة كما الإيمان: قول وعمل واعتقاد، لها بوادرها وإرهاصاتها، التي لم تكن بعد، إذ لم نزل في لغو الأحلاف، ولما نعقِّد الأيمان عليها. وإذا كان التنازع قائما داخل القطر الواحد، وإذا كانت حصون (الوحدة الوطنية) مهددة من الداخل، فكيف نتطلع إلى وحدة عربية؟ إن على القادة أن يعملوا على التجانس والتعايش والتسامح بين فئات الشعب الواحد، فالاستقرار الداخلي أهم مقومات الوحدة العربية، والتركيبات السكانية عبوات ناسفة، ما لم تستل فتائلها بالتكافؤ والتعاذر.
والكلام الإعلامي العاطفي الاستهلاكي انتهى دوره، ولم يعد مناسبا للمرحلة المثخنة، ولا للواقع المرير. الوحدة حلم، والتعاون مطلب، والتعاذر أضعف الإيمان، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بالتنازلات، والشروع بالفعل، وبث الطمأنينة في أجواء المتحفظين والمتربصين والمتخوفين، فالدول الكبرى ذات المصالح تعرف جيداً أنها لن تسود إلا بالتفريق، ولن تستأثر بالأنفال وحدها إذا كانت الكلمة للشعوب القوية المعتصمة بحبل الله جميعاً، ولأن دول الاستكبار والاستعمار جشعة واستغلالية، فإنها لن تقبل المشاركة، ولن ترضى باقتسام الغنائم. والوحدة والحرية لن تتحققا في ظل التسلط الأجنبي والتطبيع الصهيوني، وإن وعد المحتل بهما، وشرعن لتدخله من أجلهما، وإذا استطعنا ان نقنع المتحفظين، ونواجه المتربصين، ونطمئن الخائفين، فذلك خير، واحسن قيلا، وإلا فلا أقل من أن نعمل على تحييد من لا نقدر على مغالبته، وذلك بزرع الطمأنينة في نفسه، وعدم المساس بمصالحه، والكف عن سبه أو منازعته، ولقد نهينا عن سيء القول، وسب الذين يدعون من دون الله، فضلا عن مطاردته، وضرب مصالحه. وإذا كانت هناك عهود أو عقود، مضت بها رغبات القادة في أزمنة الوفاق، فمن الممكن العمل في المساحات المشتركة، واهتبال الفرص المتاحة، حتى تبلغ العقود محلها، وإدارة الأزمات لا تكون بالعنتريات.
والأمة العربية محمية بإسلامها، موعودة بنصر الله إن نصرته، وهي بهذا تتوفر على أساسيات العزة والتمكين، ولكنها لم تأخذ بها. وإذ لا نقدر على الوحدة في ظل الظروف القائمة، فعسى ألا نفشل في التعاون أو التعاذر. والأمة العربية مع كل الإحباطات تمتلك مقومات الحياة الكريمة، والعجب أن تذل وتخنع، وتمتلك وسائل الإنتاج من: أنهار متدفقة، وتربة صالحة، وسواعد قوية، وطاقات: نفطية وشمسية وهوائية، والعجب أن تصبح رهينة لرغيف العيش وأسمال الثياب. والأمة العربية قبل هذا وبعده تمتلك الكفاءات البشرية المقيمة والمهاجرة ورؤس الأموال المجمدة أو المهجَّرة، والعجب ان ترقب فاعلاً أو مساعدا. إن الدرك الأسفل الذي بلغته عرضٌ لاسمه، وممارسة لا خليقة، ولن تقال عثرتها إلا على يد أبنائها، فليؤثروها على أنفسهم، ولو كان بهم توق إلى السلطة، وليجنحوا الى السلم العربي العربي، والعربي الغربي. فحاجة الأمة إلى هدير المصانع لا إلى دوي المدافع وإلى السنابل لا إلى القنابل، وصدق الله: {لا خّيًرّ فٌي كّثٌيرُ مٌَن نَّجًوّاهٍمً إلاَّ مّنً أّمّرّ بٌصّدّقّةُ أّوً مّعًرٍوفُ أّوً إصًلاحُ بّيًنّ النَّاسٌ} .
|