Monday 21st july,2003 11253العدد الأثنين 21 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يارا يارا
المديح
عبدالله بن بخيت

أحيانا قليلة أتنحى جانباً وأفكر في مآل روحي لو كنت مسؤولاً أو رجلاً خطيراً يكال له المديح، لا أعلم مدى وقع المديح على النفس الإنسانية، يقال إن للمديح وقعاً أحلى من العسل ويقال إن الناس تتفاوت في تقبل المديح ويقال أيضاً إن كل الناس متساوون في انتظاره فلا يكره المديح سوى من لم يذق طعمه. مع بالغ الأسف لم يقدر لي أن أكون في موقع يقدم للناس شيئاً يستحق المديح أو يستدرج المتزلفين وخبراء التطبيل، تصلني في أحيان قليلة كلمات مديح لا تكفي لتكوين صورة داخلية عن الآثار الناجمة عنه، كما لم أصادف أي دراسة عن تأثيره على الإنسان، عندما أقرأ مقالاً مدبجاً بالمديح أو أسمع خطبة طنانة أحاول أن أتأمل حالة الممدوح، واتخيل أن أضع سماعة على صدره لأرى إلى أي مدى يحرك ذلك الكلام الدورة الدموية وإلى أي درجة يرفع سرعة ضربات القلب.
قبل حرب أمريكا على العراق أدمنت فترة على مشاهدة صدام حسين وهو يستقبل جنوده وضباطه، لم أكن أتفرج على شيء يستحق الفرجة، كنت أدقق في شكل صدام حسين بعد أن ينتهي أحد ضباطه من كيل المديح له، لا يتغير بشكل ملحوظ وإذا لم أكن واهماً كان يحرك السيجار بشكل أسرع من المعدل الطبيعي ثم يقول «عافية»، لكن عيونه وحركاته الظاهرة وجلسته لا تتغير أبداً، هذا لا يعني أن المديح لا يؤثر فيه ولكن الأمر يعود في ظني إلى أن الرجل اعتاد على المديح كحال المدمن على المخدر لا يؤثر فيه ولكنه لا يستطيع أن يستغني عنه، فلو كان المديح لا قيمة له عنده ما كان سيجلس يومياً يستمع لكل تلك الترهات.
في ظني يتساوى الرجال والنساء في التأثر بالمديح والتعامل معه وإن كان الرجال أكثر حاجة له فالرجل يحتاج إلى كافة أنواع المديح المتصلة بحياته لأنه أكثر امتزاجاً وتصارعاً مع الحياة، فالرجل لا يكفيه المديح في جانب دون آخر يريد أن يسمع أنه الأذكى وأنه الأفضل وأنه الأوسم يريد ان يسمع المديح حتى على نكته السخيفة.
حضرت مرة محاضرة لباحثة اسكندنافية تقول إن الرجل أكثر حساسية تجاه اعماله وتجاه شكله من المرأة لذا فهو ينتظر المديح ليؤكد ذاته باستمرار.
مهما كان الرجل يقظاً ومتنبهاً للمتزلفين فلابد أن يقع في الفخ، لابد أن يأتي من يتمكن منه.
سمعت مرة رجلاً شغل منصباً هاماً فترة طويلة سمع فيها كل أنواع المديح الذي يمكن أن يقال، شرح حالته للحضور، طبعا بدون قدرة على فلسفة الأمور أو تحليلها، كان يسوق كلامه من باب الموعظة. يقول: في البداية في الأشهر الأولى من تسلمي المنصب كنت أفرق بين المديح الحقيقي والمديح الزائف وأعرف كيف أنتقي تأثير الكلمات على نفسيتي، كنت أضحك عندما يأتي من يبالغ في قدراتي أو في أدائي، ولكن بعد فترة بعد أن اندمجت في العمل وارتفعت إلى مستوى المسؤولية وأصبح المنصب بمثابة موقعي الطبيعي كأني خلقت له وخلق لي تحولت الكلمات المادحة إلى كلمات حقيقية، أو انها اختلطت بالحقيقة إلى درجة لا يمكن الفصل بينهما، زارني والكلام مازال لصاحبي المتقاعد مرة واحد من الجماعة قضينا معظم أيام الدراسة الأولى معاً، فدخل أحد المراجعين وكال لي المديح المعتاد وبعد أن خرج المراجع التفتَ عليَّ ضيفي وقال ضاحكاً (بعض الناس (دجالين صحيح)، مشيراً إلى المراجع، استغربت أن يصف المراجع بالدجال، كنت آخذ مثل هذا الكلام كشيء مسلَّم به، فالتفت على زميلي وسألته: هل قال شيئاً لا استحقه، فرد: وهل قال شيئاً له قيمة؟ عندما خرج زميلي تأملت فيما قاله الرجل، كان كلام صديقي كالفتر نقّى روحي قليلاً فأحسست أن المراجع كان يمدحني بشكل أكثر مما أستحق وبالفعل تبين لي انني تعودت على هذا الهراء حتى أضحى جزءاً من حياتي، ولكن هذه التجربة لم تدم طويلاً فعدت إلى تقبُّل المديح وخلطه بالحقيقة حتى حانت ساعة الحقيقة عندما أحلت على التقاعد.
من كلام هذا المتقاعد وخبرتي البسيطة يتبين لي أن الإنسان من طبعه يحب المديح بصفته كائنا اجتماعياً لأن قيمة الإنسان تظهر من خلال رد فعل الآخرين تجاه أفعاله وتجاه شكله ربما أدعي أن تقبل المديح والبحث عنه من فطرة الإنسان والدليل أن الطفل على براءته وقلة خبرته ينتظر المديح مثله مثل البالغ. منذ مدة وأنا أبحث عن كتاب جاد يحلل هذه الظاهرة ولكني لم أوفق بعد.
من يعرف كتاباً في هذا الموضوع أرجو أن يدلني عليه وله أجري.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved