كل حضارة في حاجة ماسة للنقد يتناول ثقافاتها، وأنماط معيشة أفرادها وجماعاتها وسلوكياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين أصدقاء وخصوماً، من أجل التطور والتكيف مع تقلبات الزمان والمكان.. ولكن النقد عموماً، والنقد الذاتي خصوصاً، في مجتمعاتنا العربية يواجه عقبات تجعله معطلاً، ففي التعامل النقدي مع الذات أو النحن والآخرين، يمكن تمييز تيارين أساسيين من عدة أُخر، الأول يرى أن النقد الذاتي ينبغي ان يكون خفيفاً يمس الفروع ولا يقترب من الأصول، الشكل لا المضمون.. وبالمقابل ينبغي تشديد توجيه النقد إلى الآخرين، كأن النقد ذمٌّ أو عمل تثبيطي! وما ذلك إلا بدعوى أننا في مرحلة حساسة وخطرة ونواجه غزواً فكرياً وعسكرياً.. ونحتاج للتكاتف وليس للنقد.. وهذه المرحلة أو حالة الطوارئ التي يمنع فيها ممارسة النقد الذاتي ظلت فيها المجتمعات العربية تئن من وطأتها ردحاً من الدهر حتى تراكمت القروح على الجروح..
ولأن هذا التيار لا يفرق كثيراً بين الشتم والنقد فهو يوجه أكبر قدر ممكن من سهام الكلام في وجه الخصوم. والنقد من ذلك التيار يتوجه نحو إدانة الآخر في أية قضية خلافية.. طبعاً نحن نقول قضية خلافية جدلاً، ولكن هذا النوع من المثقفين العرب لا يرى ان ثمة قضايا خلافية فكل القضايا ثوابت غير متغيرة، ومحسومة سلفا لصالحه!! وتضج المكتبة العربية ومقالات الصحف بعدد هائل من تبرئة الذات وتجريم الخصوم.. أي خصوم، بدءاً بالصهيونية ومروراً بالغرب والشرق وانتهاء بالجيران.. ولا غبار في ذلك بل إن بعضاً منه صحي ورائع.. إنما المشكلة في وسيلة ساذجة وغاية غامضة.. فالوسيلة غالباً حشو ومبالغة مَرضية في تضخيم أخطاء الخصوم، ومبالغة في عدد الكتابات ضد الخصوم بأداء متواضع وتقنية متخلفة.
فمثلاً، هل كشف سوء الصهيونية لمجتمعاتنا يحتاج لعباقرة وكل هذا الجهد وعدد الكُتَّاب والمطبوعات؟ وهل هذا الكشف همنا الأكبر أم مواجهة الصهيونية حضارياً وسياسياً وثقافياً في الميادين الصحيحة وليس في ميدان الخطابة فقط؟ لماذا توجه هذه الخطابية فقط للجمهور العربي المسلم الذي يمقت الصهيونية ولا يحتاج لإقناعه جهداً كبيراً ومستمراً، وليس للجمهور الغربي الذي لا يتابع الأمر ويحتاج لإعلام ومخاطبة في ذلك؟ لماذا لا تكون هذه المخاطبة عقلانية، وليس صراخاً وشتائم؟ هل الغاية هي إرضاء الذات، والاقتناع الطفولي بأننا على صواب دائما والآخرون على خطأ؟ أم الغاية دحر الأعداء بأدوات صالحة للمجابهة؟ وكيف يمكن أن نجابه الخصوم دون نقد ذاتي يعدل من أخطائنا ويحسن من أدائنا؟
التيار الثاني يؤمن بالنقد الذاتي.. ويمكن تلمُّس توجهين في هذا التيار. التوجه الأول لا يمارس النقد الذاتي إلا نظرياً.. فهو ينظّر لفضائل نقد الذات ومنافعه، ولكن عند تناوله الأمثلة الواقعية تجد أنه لا يختلف عن التيار السابق، لأنه لا يرى في النقد الموضوعي سوى تجميع مثالب الخصوم وتضخيمها إزاء تمييع مساوئنا والبحث عن مبررات لأخطائنا في تصرفات الآخرين أو الخصوم.. مثلاً العنف الإرهابي الذي تمارسه بعض التنظيمات يجد من يبرر له من خلال توجيه اللوم لتصرفات الإدارة الأمريكية الرعناء.. فأمريكا هي السبب أما أبناؤنا فهم مغرر بهم بسطاء سذج.. ونحن وثقافتنا أبرياء من أية تبعية لسلوكهم الطائش، ولا يوجد لدينا ما نراجعه أو ننتقد به ذواتنا أو أوضاعنا أو نعتذر عنه لأهل الضحايا ولبلدانهم.. وذلك من أجل شتم الآخرين خاصة أمريكا وتبرئة أنفسنا من كل مثلب.. فنحن على ما يرام ننام ملء جفوننا، والعلة في الآخرين الذين عليهم وحدهم تعديل تصرفاتهم لحلِّ الأزمة!
التوجه الثاني، وهو الذي يحاول ممارسة النقد الذاتي نظرية وتطبيقاً.. هذا التوجه تبعثره المواقف الفردية وتتنازعه المبادرات الشخصية، وينتابه الذعر من بطش مجتمعات بسلطاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية.. مجتمعات لا تحترم البحث والنقد والحق في الاختلاف.. وقد يكون البطش من الأصدقاء المثقفين وارتيابهم العصابي (بارانويا) قبل الجهة الرسمية وجهازها البيروقراطي.. وتحاصر هذا التوجه ثوابت فكرية وهمية ومحظورات لا تحصى.. فهنا الأصل في النقد المنع!! حيث دراسة الأفكار الفلانية ممنوع قطعياً شكلاً ومضموناً، ونقد المواضيع الثقافية الحساسة يمنع الاقتراب منه، والسياسي كذا محظور، ونقد أدائنا تجاه الخصوم أو تعاملنا مع الآخرين جلد للذات أو محاباة للأجنبي يعاقب فاعله، والنقد التحليلي للمجتمع القبلي وتركيبه إثارة للنعرات، والدراسة النقدية للوضع الطائفي إثارة للفتنة، والتعرض لأفكار فلان المبجل مستحيل، ومناقشة النظام القضائي تشكيك في عدالتنا، ونقد مناهجنا الدراسية خنوع لخصومنا.. الخ، وحين يتجاوز الكاتب أحد تلك المحاذير يُرمى بتهم تتراوح بين الخيانة والتكفير وطلب مقاطعته ومصادرة أعماله وبين وصمه بالتخاذل والتماهي مع الغرب.
وأغلب المثقفين العرب لا يناقش معك القضايا السياسية المصيرية إلا من باب التأييد المتبادل، ففي ما يخص القضية الفلسطينية، إذا انتقدت عسكرة الانتفاضة أو انتقدت مقاطعة التيارات المعتدلة في صفوف الخصم أو انتقدت مسيرة الكفاح المسلح مطالباً بالمقاومة السلمية.. الخ فأنت ببساطة خائن!! إذن ليس هناك نقاش فيما نسميه ثوابتنا، بل تأكيد لما تم عمله بغض النظر عن فشله الذريع أو نجاحه الرائع أو ما بينهما. من حق المناقش أن يصوبني، ويشكك في قدراتي ومنهجي التحليلي، ويحذر من النتائج التي توصل اليها أفكاري.. بإمكانه أن يتفِّه ما أكتبه ويقدح فيه.. لكن ليس من حقه أن يشكك في إنسانيتي أو عقيدتي أو وطنيتي أو نزاهتي ما لم يمتلك أدلة هي من واجب الشرطي والمحقق والقاضي وليست من واجبات المثقف، وليس من صلاحياته أن يصادر حقي في الكتابة ونقد خطابنا ونظرياتنا وممارساتنا.. ليس من حقه أن يحدد ما ينبغي عليَّ نقده وما لا ينبغي..
بلا نقد ذاتي حقيقي ومفتوح سنظل أسرى أوهام تضخيم الذات، والهروب من أزماتنا عبر تحميل وزرها على الاخرين، ومجابهة الأعداء بالصراخ العقيم.. فالنقد الذاتي هو الطريق الممهدة للإصلاح.
|