تسارع الأحداث وتطور المواقف السياسية في المنطقة، وخروج تيارات سياسية من اللعبة الدولية، ودخول آخر سيعيد تشكيل العقيدة السياسية إن صح التعبير في المنطقة العربية، فالموقف الرسمي في الوقت الحاضر من سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تبدل 180 درجة منذ الستينيات، ذلك الموقف الذي كان مبنياً على شعارات سياسية تناهض التأييد الأمريكي السافر لإسرائيل، فقد كان أكثر الأصوات شعبية أكثرها تطرفاً ضد الحكومة الأمريكية، والشارع كان يخرج عن بكرة أبيه، ليحتفل بلعن وشتم وإحراق الأعلام كأحد أهم وسائل المعارضة العربية ضد السياسة الأمريكية، التي لاتزال تحظى بالتأييد في شوارع عربية عديدة، وأنا هنا لست في موقع المندد أو المؤيد لتلك المشاعر العدائية الجماهيرية..
لكني ألمح منذ مدة ليست بالقصيرة، خروج تيار ثقافي سياسي يرفض العداء المطلق لسياسات أمريكا، وينادي بمهادنة أو بمسايرة جبروتها السلطوي، ولكن مايزيد فلسفة هذا التيار تطرفاً، إنه يدعو لإقصاء أولئك الذين يشككون في مصداقية السياسة الأمريكية انطلاقاً من موقف سياسي أو فكري، ويجعلهم ذلك التيار الجديد رمزاً لغوغائية الستينيات وزمن استبداد القومية العربية، وذروة تطرف الشعارات السياسية المناهضة للتأثير الأمريكي على الأحداث، ويبرر التيار الجديد عداءه لتلك الحقبة، انها بددت مصالح الأمة في عداء خاسر مع القوة الأمريكية، وانها أي تلك الفترة اقترنت بالفساد والعنف السياسي، وحاربت الديموقراطية واقتصاد السوق والتعددية وحرية الرأي، وان الولايات المتحدة الأمريكية هي سيدة العالم المتحضر بلا منازع، ويجب مراعاة هيمنتها الحضارية والعلاقة الاستراتيجية معها.
وتنطلق أيضاً مواقف المناهضين لعداء أمريكا التقليدي من مقولة العبرة بالنتائج، فهم يتذرعون بمبادئ الفلسفة البراغماتية الأمريكية الأصل، فعداؤها ستكون نتائجه محسومة بالخسارة المؤكدة، لذا يجب الأخذ بعين الاعتبار نفوذها السياسي، وبالتالي مراعاة مطالبها التي ستجلب المنافع من بابها الشهير، وقد تختلف المنافع حسب الدوافع السياسية، وذلك موضوع آخر..
أما مناهضو المد الأمريكي، فيتوقفون كثيرا عند عبارة سيدة الحضارة الغربية، فهي في قاموسهم الأخلاقي غير دقيقة، وتخلو تماماً من الصحة، وتحرِّض لديهم غريزة تفكيك التناقض الظاهر في مواقف الإدارة الأمريكية، فالسيدة الانكلوساكسونية تفضح غطرستها عادة التلاعب بالقوانين الدولية، ويكشف زيف مبادئها ورفضها قبول مبدأ التعايش كأحد أعضاء المجموعة الدولية، فهي الاستثناء الذي يحكم القاعدة، فهي تفرض على العالم شروطاً لاتلتزم بها، فهي أي أمريكا تضغط على كثير من الدول بأن يبصموا بالعشرة على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية حسب شروطها، ولكنها ترفض التوقيع عليها، ولا تكتفي بذلك ولكن أيضاً تغض النظر عن امتلاك اسرائيل بشكل سافر لتلك الأسلحة الفتاكة، ولا يتوقف رفضها للمعاهدات الدولية عند تلك، بل ترفض أن تنضم لمحكمة الجرائم الدولية في هاج، وتهدد بقصفها ان هي استدعت أحد قادتها أو ساستها، ويزيد من رقعة تناقضها اتساعاً إنها تنصب محاكم جرائم حرب فرعية «حسب ما تقتضيه مصلحتها»..
فالولايات المتحدة بادرت إلى هذا النوع من المحاكم ضد قادة الصرب وجرائمهم في الحروب الأهلية البلقانية الأخيرة في نهاية القرن العشرين. ولكن ترفض سلطة محكمة العدل الدولية في هاج، والانضمام لعضويتها والالتزام بمبادئها إذا طلب منها ذلك، وقانون محكمة جرائم الحرب الدولية الذي يتعامل مع الجميع تحت مظلة قانون موحد، يناقض السلوك الامبريالي الأمريكي الاستثنائي، الذي يلتقي فقط مع القاعدة في حالة واحدة، وهي حالة مواكبة مصالحها معها، كما تحرم مواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة عمليات الإعدام خارج دائرة القانون تحت أي ظرف، حتى خلال الحروب، وأن الحكومات يجب أن تضمن اعتبار أي عمليات إعدام كهذه جرائم حرب بموجب قوانينها الجنائية، وأن يعاقب عليها بالعقوبات المناسبة التي تأخذ بعين الاعتبار مدى خطورة هذه الجرائم. وانه لايجوز التذرع بالظروف الاستثنائية، بما فيها حالة الحرب أو التهديد بها أو الاضطرابات السياسية الداخلية أو أي حالة طوارئ أخرى كمبرر لتنفيذ عمليات الإعدام هذه، ومع ذلك، لا تعدو هذه القوانين بالنسبة للسيدة الحاكمة بأمرها إلا مجرد حبر على ورق!، فهي لاتتوقف عن سنّ قوانين الاغتيال ضد أعدائها في الخارج.
ليستمر مسلسل التناقض العجيب، فهي ترفض أيضاً التوقيع على معاهدات حقوق المرأة والطفل الدولية، تحت حجة أو ذريعة أنها تكفل بشكل مثالي للمرأة وللطفل حقوقهما، والمفارقة غير الشاذة في سلوكها السياسي، ان إحدى أوراق الضغط السياسي الأمريكي على دول العالم الثالث، هو مطالبة حكوماتها بحقوق للمرأة، وضمان حريتها، برغم ان الإدارة الأمريكية لاتعترف بمواثيق ومعاهدات حقوق المرأة الدولية، أيضاً لا تخضع الولايات المتحدة الأمريكية قوانينها الأمنية إلى معاهدة جنيف للأسرى، فسجناء غوانتنامو لايحق لهم الاتصال بممثلي بلادهم وطلب المساعدة القانونية، وهذا يناقض تماماً معاهدة جنيف للأسرى، وفي ظل هذا الاستثناء، ستبقى الإدارة الأمريكية هي الخصم والحكم والجلاد، ومن خلال هذه القاعدة العريضة من الاستثناءات، تنطلق مواقف بعض المعادين للسياسة الأمريكية، وهي منطلقات موضوعية لا تمليها رسائل خارجية أو واجبات أو مسلمات عقدية، بل يدفع ذلك الموقف المعارض للإدارة الأمريكية، عدم مصداقية الإدارة الأمريكية الهائل، وهو على وجه التحديد، ما قد يستغله بعض الرموز لجذب الاتباع المتعاطفين مع أي موقف يناهض المبدأ الأمريكي، ويكشف تناقضه غير المبالي.
نحن العرب بلاشك في أزمة سياسية ثقافية، أحد وجوهها صعود تيار سياسة السكوت الاستراتيجي، فالمطلوب الآن هو الصمت، وعدم رفع الصوت عالياً ضد أمريكا، فالمصالح تقتضي ذلك، والمصالح - بالمناسبة - قد تختلف، فبعض دعاة الصمت يؤمنون أن الوطن العربي في حالة خطر، ويجب مسايرة المصلحة الأمريكية، وبعض الآخر يأمل ان تصدق الوعود الأمريكية ولو لمرة بإصلاح الشأن العربي، فهي حسب وجهة نظرهم، الوسيلة الأقل ضرراً إذا تحققت.. لكن هناك من يقول إن زمن السكوت لن يطول، فالقافلة الأمريكية الحالية ستمضي، وستأتي إدارة أمريكية جديدة أيضاً لاتحترم المواثيق الدولية، ولا تهتم كثيراً بمصالح البيت العربي من الداخل، وسواء صرخنا بأعلى صوت أم همسنا، الإصلاح العربي لن يأتي من خلال وعود الإرادة الأمريكية، فهي لم تعرف في تاريخها إلا الاستثناء، وما حدث في اليابان وألمانيا كان استثناء لقاعدة الاستثناء الأمريكية..
لذلك.. يجب أن يرفع البعض سيوف الإقصاء عن رقاب من يتبنى موقفاً فكرياً ضد فلسفة التناقض الأمريكية، أو من يخالفهم في أمور قابلة للاختلاف، ويجب ان ندرك ولو متأخرين نوعاً ما أن لا شعار العداء لأمريكا، ولا شعار الولاء لها، سيوجد حلا للمعادلة الصعبة في الواقع العربي، لكن قوة الإرادة الذاتية والثقة بالنفس قد تكون المخرج السليم من ضيق أحادية الحلول الأمنية، إلى سعة أفق تعددية المناهج المعرفية والحلول العملية، وحرية التيارات الفكرية، والاعتماد على التنمية البشرية، ولن يحدث ذلك أيضاً إلا من خلال نقد ايجابي لبنية التناقض الداخلية، يرتكز على الحوار السلمي.. ولكن بشرط ضروري أيضاً، وهو ان تبقى السيوف في الغمد، أمام مبادرات النقد الذاتي، وكشف حالات التناقض في العمل العربي، فهي أحد أهم وسائل الخروج من الأزمة العربية الداخلية، ولكيلا نضل السبيل مرة أخرى خلال مرحلة مراجعة بقية أسباب تلك المعادلة العربية الصعبة، يجب ان نحرص ان نُبقي اختلافنا إن حدث محمودة عواقبه..
|