استوقفني حديث أجرته صحيفة «الجزيرة» في عددها ليوم الجمعة 1/5/1424هـ، الصفحة 8 ضمن محاورة تكفيريّ تائب، حيث أبان الحديث عن أمور كثيرة مهمة، انقلبت بها أفكار بعض الكتاب، الى أمور ما تكاد تصدّق، لولا أنها حصلت بالفعل، وبانت آثارها السيئة التي أعان الله ولاة الأمر في كشفها، والتعرّف على خلايا هذا الفكر، في حملة - موفقة بإذن الله - لحماية الأمة والبلاد، من شرور كانت تحاك، وبأيدي شباب انحرفت مفاهيمهم، لأمور حذّرت منها تعاليم ديننا، وأعاننا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في التعريف بها قبل أن تقع، وبإبانه المخرج منها، عندما قال عليه الصلاة والسلام:«إنها فتن كقطع الليل المظلم»، قالوا: يا رسول الله فما المخرج منها؟. قال:«كتاب الله وسنتي».
فالاعتصام بكتاب الله، والحرص على فهمه فهماً حقيقياً، والتحصن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير باصرة، وفهم واعٍ، وفي ذلك العصمة من الزلل، والحصانة من قرناء السوء، وما يحاولون بثّه من فكر وافد.. وهو داء يحتاج الى دواء ورسول الله يقول:«ما أنزل الله من داء إلا وله دواء».
ذلك أن هذا التائب، وهو الذي خاض في الفتنة حتى بلغ أثرها أذنيه، وتدنس في وحلها حيث غاصت أخمص قدميه، فأدرك بفكره الثاقب، بعد أن أنار الله بصيرته، وفتح عليه مغاليق ذهنه ما كاد يندرس من دروب الحق.
لأن الله سبحانه أعطى الإنسان: إحساسين ككفتي الميزان، أخذاً وعطاءً، ليميز بهذا الاحساس، الفرق بين النافع والضار {)لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (لأنفال:37)
فإذا أراد الله بالإنسان خيراً، رنا فؤاده لكل طريق يوصّله الى ذلك، ويعينه الله على تخطّي العقبات والأشواك في ذلك الطريق وما يحفّ به، ولا شكّ أن هناك غيره، ممن حرّكت عندهم الحوادث، ويقظة الدولة في محاربة هذا الفكر، واجتثاث جذوره، الشعور بالندم، وإدراك خطأ ما قِيْدُوا إليه من فكر خاطئ، وشعارات لا يدركون أبعادها، ولا ما يريده المنظّرون لهذا الفكر ولا ما تعنيه تلك الشعارات.. من إرهاب وأضرار بالاسلام والمسلمين.
وكان من أبرز ما جاء في ذلك الحوار أمور اندفع وراءها: شباب لم تنضج عقولهم، ولم يتسلّحوا بالعلم النافع، بل منهم من كان عاصياً لوالديه، وكذّاباً مع من حوله، والمؤمن لا يكون كذّاباً، لأن الكذب من خصال المنافقين، الذين أخبر الله عنهم، بأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولا نصير لهم عند الله.
نقول: بأن لنا من ذلك الحديث نقاطاً من أبرزها:
- أن فكرة التكفير برز دُعاتها بصورة واضحة مع حرب الخليج الأولى حدّدها التائب بعام 1411هـ.
- وأن منبع هذا الفكر في أفغانستان، الذي اجتمع فيه خليط من العرب وغيرهم، وكان يتزعم ذلك أسامة بن لادن، وهدفهم الأول هذه البلاد، مرنا أفئدة المسلمين، وفيها الحرمان الشريفان.
- ركّزوا- حتى يكبر الحقد ويتحقق ما يريده أعداء دين الله من الخارج - في تكفير العلماء: الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني وغيرهم - رحمهم الله -.
- واتبعوا ذلك بتكفير حكّام وعلماء هذه البلاد خاصة، وغيرهم عامة.. وهذا التكفير ترتّب عليه الفتوى، ممن لا علم عنده ولا ورع: بالقتل والتخريب.
- بعض من يدّعون مشايخ الصحوة، هم من تبنّى منهج التكفير، وعزل الشباب عن العلماء، بل وتنفيرهم منهم، حتى تحدث فجوة بين العلماء والشباب، لتكون فرصة يغتنمها أصحاب الأهواء لبلبلة الأفكار.
- هناك من يغذّي هذا الفكر داخلياً وخارجياً بالتجمعات والمنشورات، ويعين على توسيع دائرته، بالتدليس والإثارة.
- ثم ذكر التائب في حديثه الطويل المهم، الذي فتح نافذة على هذا الفكر والمخططين له، وما يريدون من تخريب وفساد وإفساد، بدون هدف معيّن، ذكر نقطتين مهمتين هما قوله:
- تنبّهوا فالحملة المسعورة للتكفيريّين، تستهدف الصغار، ومن هم دون العشرين.
- للأسف هناك الآن كتب وأشرطة، توزّع وتباع في الأسواق، تحرّض على الارهاب والتكفير.. هذه الأمور وغيرها، التي وضعها التائب في محاورة الجزيرة له، ما هي إلا علامات وضعها على الطريق، تنبئ عن الداء، وتدعو الى التكاتف بين العلماء والمفكرين، وولاة الأمر والآباء وأبناء هذا الوطن، الذي بُذل الكثير من الجهد والوقت والمال، في سبيل وحدة أجزائه في كيان متماسك، تحت راية التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. وبدستور وتحكيم شرع الله في عبادة الله: القرآن الكريم والسُنّة المطهرة.. ومن تمسك بهما وجعلهما هدفه وغايته: بصدق واخلاص، أعانه الله سبحانه، وفتح له مغاليق الأمور، ويسَّر أمره، ونصره من حيث لا يحتسب، ألم يقل سبحانه:{إن تنصروا الله يّنصٍرًكٍمً ويثبت أّقًدّامّكٍمً} [محمد: 7]، ويقول جلَّ وعلا: {وّكّانّ حّقَْا عّلّيًنّا نّصًرٍالمٍؤًمٌنٌينّ} [الروم: 47]. وهذا وعد من الله، ووعده جلَّ وعلا لا مِراء فيه، ولا جدال.
- هذه الأمور تدعونا الى ان نرجع الى الوراء قليلاً - قبل ان ندخل فيما يعين على اصلاح الفكر عند الشباب. في نظرة تاريخية، عن بداية التكفير في المجتمع، المبني على أفكار سيئة، ومفاهيم خاطئة، وذلك في فتنة عثمان بن عفان الخليفة الراشد - رضي الله عنه - والتي حمل لواءها وبثّ سمومها عبدالله بن سبأ، فأشاعها في أذهان الشباب، حتى قدموا من مصر الى المدينة، ونتج عنها مقتل عثمان وهو يتلو كتاب الله بشبهات وضعت ضده.
[للحديث صلة]
زهد وأدب
جاء في نفح الطيب، أن شاباً حدّثه قال: قصدت منزل ابن بكّار في أشبونه، ونقرت الباب، فنادى من هذا؟. فقلت: رجل ممن يتوسل إليك بقرابة، فقال: لا قرابة إلاّ بالتقى، فإن كنت من أهله فادخل وإلاّ فانصرف. فقلت: أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك، أن أكون من أهل التقى، فقال: ادخل؛ فدخلت عليه فإذا به في مصلاّه يسبح الله، وهو يعدّ بأصابعه، فقال لي: أمهلني حتى أتمّ وظيفتي من التسبيح ثم أقضي حقك. فقعدت حتى فرغ، فلما قضى تسبيحه عطف عليَّ، وقال: ما القرابة التي بيني وبينك؟ فانتسبت له فعرف أبي وترحمّ عليه، وقال: لقد كان نعم الرجل، وكان لديه أدب ومعرفة، فهل لديك أنت مما كان لديه شيء؟. فقلت له: إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلّم الأدب، وقد تعلّقت من ذلك بما أتميز به، فقال لي: هل تنظم شيئاً؟. قلت: نعم وقد ألجأني الدهر الى أن أرتزق به. فقال: يا ولدي، إنه بئسما يرتزق به، ونعم ما يُتحلَّى به، إذا كان على غير هذا الوجه، ولكن تحلّ الميتة عند الضرورة، فأنشدني أصلحك الله.. مما على ذكرك من شعرك. فطلبت بخاطري شيئاً أقابله به مما يوافق حاله، فما وقع لي إلاّ فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك، فأطرقت قليلاً، فقال: لعلك تنظم. فقلت: لا ولكني أفكر فيما أقابلك به، فقولي أكثره فيما حملني عليه الصبا والسخف، وهو غير لائق بمجلسك.. فقال: أنشدني ما وقع لك غير متكلّف، فلم يمدُّني خاطري إلاّ بشعر أمجن فيه، فقال: أما كان في شعرك أطهر من هذا؟ فقلت: ما وفّقت لغيره، فقال: لا بأس عليك، فأنشدني غيره.. ففكّرت الى أن أنشدته أربعة أبيات في الغزل البريء. فرأيت الشيخ قد اختلط، وجعل يجيء ويذهب، ثم أفاق وقال: أعد. فأعدت، فأعاد ما كان فيه. فقلت له: لو علمت أن هذا يحرّكك أما أنشدته إيّاه، فقال: وهل حرّك مني إلا خيراً وعظة. فأعجبني منزعه، وتأنّست به، ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الانكماش، بل ما زال يحدّثني بأخبار فيها هزل، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له ولا أعلم أكثره. [نفح الطيب 2:112].
|