* القاهرة مكتب الجزيرة علي البلهاسي:
«أفريقيا تعود من جديد لتكون ساحة للتنازع بين القوى العظمى» هذا هو تعليق كثير من المراقبين على جولة بوش الافريقية والتي عكست اهتماما امريكيا مفاجئا بالقارة السمراء، ومع ذلك فان التنافس الأمريكي الفرنسي على أفريقيا ليس بالجديد ولكنه يرجع الى عشرات السنين حيث تعددت المحاولات الامريكية لبسط السيطرة والنفوذ على القارة وزعزعة استقرار ونفوذ المنافس الفرنسي العنيد الذي يرى في ارض القارة السمراء امتدادا طبيعيا له وخلفية يمكنه ثقافية واستراتيجية الاستقواء بها على منافسه العملاق الامريكي.
ويمكن القول ان أفريقيا هي اول حلبة في العالم الثالث تشهد عودة عصر الاقطاب المتعددة مع حسم الولايات المتحدة للصراع عبر مصادر الطاقة في المشرق العربي بعد حرب العراق بالاضافة الى نجاحها في انتزاع غالبية الامتيازات البترولية في الجزائر من الشركات الفرنسية فانه لم يبق امام فرنسا ممثلة لأوروبا سوى الحفاظ على ما تبقى لها من مصالح في بعض دول أفريقيا فضلا عن محاولة استعادة بعض مواطئ قدميها في القارة والتي فقدتها في فترة السبعينيات.
تراجع فرنسي
منذ عهد الزعيم الفرنسي الجنرال ديجول احتفظت فرنسا بمكانة مركزية في مجالها الاستعماري السابق خاصة في القارة الافريقية..ومنذ عهد ديجول وحتى الآن لم تتغير المبادئ الاساسية للسياسة ولا المفهوم الذي تعنية افريقا لفرنسا ولكنه خلال السنوات الخمس التي حكم فيها الحزب الاشتراكي في فرنسا تراجع الاهتمام بالمصالح الفرنسية في أفريقيا.
مؤشرات تراجع الدور الفرنسي خلال السنوات العشر الاخيرة في أفريقيا عديدة لعل ابرزها انخفاض اعداد الجالية الفرنسية في أفريقيا بنسبة 40 % كما انخفض عدد القوات الفرنسية من 8 آلاف جندي الى 5 آلاف جندي واغلقت بعض القواعد في وسط أفريقا وقد ادى خفض القوات الفرنسية العاملة في الدول الافريقية بالاضافة الى التراجع الكمي والكيفي لجيوش تلك الدول الى فراغ سياسي وعسكري وبالتالي الى صراعات وحروب داخلية مهدت للتدخل الاجنبي ولكي ندرك مدى الفراغ الذي تركته فرنسا في أفريقيا يكفي ان نعلم ان حجم القوات الفرنسية العاملة في أفريقيا في عام 2002 وصل الى اقل من 4 آلاف جندي بعد ان كان يقدر بأكثر من 30 الفا في الستينيات.
الدخول الأمريكي
في مقابل هذا التراجع الفرنسي اصبح الاختراق الامريكي للقارة الافريقية حقيقة قائمة بعد ان نجحت الولايات المتحدة في توظيف اتفاقات البنك الدولي وصندوق النقد في تعزيز حضورها الاقتصادي والتجاري في القارة مقدمة الشراكة بين القطاعات الخاصة بديلا عن النموذج الفرنسي للعون ونجحت هذه السياسة بسهولة خاصة وان العديد من البلدان الافريقية وخصوصا تلك الداخلة في منطقة الفرنك الافريقي قد تقلصت ثقتها في حماية شريكها الفرنسي.
ولم يقتصر الاختراق الامريكي لأفريقيا على المجال الاقتصادي ولكن تجاوزه الى المستوى السياسي بعد ان نجحت الولايات المتحدة في ايجاد قاعدة قوية لها في القارة تنتظم حول محور اوغندا رواندا انجولا الكونغو، وادت هذه التطورات المتسارعة الى حصار الوجود الفرنسي في أفريقيا وواجهت فرنسا اتهامات من الشارع الافريقي المحبط بتخليها عنه واغلاق حدودها في وجه مواطني القارة ومن ثم كانت الثغرة التي نفذت منها الولايات المتحدة التي بدأت ترسم بدقة وعناية استراتيجيتها الافريقية الجديدة.
وكان على فرنسا ان تتحرك سريعا لمواجهة التغلغل الامريكي داخل القارة وبدأت وزارة الخارجية الفرنسية منذ شهر يوليو 2002 تكشف عن سياستها الجديدة تجاه أفريقيا فقام دومنيك دوفليبان وزير الخارجية الفرنسي بزيارة اربع دول افريقية هي انجولا وموزمبيق وبوركينا فاسو والكوت ديفوار في جولة تستهدف التأكيد على الروابط الفرنسية الافريقية.
كما اتجهت فرنسا الى تعزيز علاقاتها مع ليبيا بعد ان ادركت تأثيرها في التفاعلات الافريقية وعزز هذا التعاون النظرة المشتركة بين فرنسا وليبيا تجاه اندفاع السياسة الأمريكية في منطقة المغرب العربي ومع اختلاف الاسباب والدوافع بين الجانبين الا ان الموقف المشترك يجمع بينهما ضد السياسة الامريكية وكان من الواضح ان هناك تحرشاً امريكيا بفرنسا يتم في شمال أفريقيا، ففي عام 1998 أعلنت امريكا مبادرة ايزنستات والتي تقضي بانشاء سوق مشتركة امريكية مع ثلاث دول هي المغرب والجزائر وتونس ثم اضافت موريتانيا الى نطاق السوق المشتركة واصرت على استبعاد ليبيا وهوما اثار فزع فرنسا والاتحاد الاوروبي لان منطقة المغرب العربي تعتبر اساسا منطقة نفوذ اقتصادي وسياسي اوروبي فرنسي وكان الموقف المشترك الذي جمع بين فرنسا وليبيا هومواجهة السياسة الامريكية في المغرب العربي وفي أفريقيا بصفة عامة.
احتدام الصراع
واحتدم الصراع بين الجانبين قبل الحرب الامريكية على العراق حينما حاولت الولايات المتحدة تمرير قرار مجلس الامن بضرب العراق في ظل معارضة (فرنسية روسية صينية) وتهديد فرنسا باستخدام حق الفيتو ضد هذا القرار وان كانت فرنسا فضلت ان يسقط القرار دون ان تستخدم الفيتو بعدم حصوله على تأييد تسع دول كحد ادنى من اعضاء مجلس الامن وهنا ظهرت اهمية موقف الدول الافريقية الثلاث الاعضاء غير الدائمين في مجلس الامن وهي الكاميرون وغينيا وانجولا حيث اصبحت لهذه الدول الافريقية الثلاث اهمية بالغة في تحديد مسار الازمة العراقية وبالتالي التأثير في التفاعلات الجوهرية الجارية التي يتوقف عليها مصير محاولات واشنطن تكريس نظام أحادي القطبية وجهود معارضيها ومنهم فرنسا الرافضة لمبدأ الهيمنة الامريكية.
وربما كانت القمة الفرنسية الافريقية التي عقدت في فبراير 2003 فرصة للرئيس شيراك لحث الدول الأفريقية الثلاث الاعضاء غير الدائمين في مجلس الامن على عدم تأييد المشروع الامريكي بضرب العراق وبالرغم من ان النفوذ الامريكي قد شهد تصاعدا غير مسبوق في دول أفريقيا فان فرنسا نجحت في حث تلك الدول على تحدى إرادة الولايات المتحدة ومعارضة مساعيها لاستصدار قرار مجلس الامن بضرب العراق. وهكذا كانت القمة الفرنسية الافريقية بنتائجها الايجابية لفرنسا ضربة قاصمة للنفوذ الأمريكي في أفريقيا فقد نجحت فرنسا خلال القمة في ابراز دورها في معالجة مشكلات جميع القارة بدعوتها لروبرت موجابي رئيس زيمبابوي للقمة للتحاور معه حول مشكلات البلاد وفتح حوار جديد مع زيمبابوي يعزز موقف فرنسا في تنافسها المعروف مع بريطانيا المستعمر السابق لزيمباوي خاصة مع بروز بريطانيا كحليف رئيس للولايات المتحدة كما جاءت القمة في اطار سياسة شيراك لإعادة أفريقيا الى دائرة الاهتمامات الفرنسية دون ابراز الهيمنة لمواجهة الدور البريطاني والدور الأمريكي المنافس في القارة السمراء الذي عمل على توجيه الضربات لمصالح فرنسا والتربص لإفشال سياستها في أفريقيا.
وفي المقابل تأتى جولة بوش الاخيرة في أفريقيا في محاولة لزيادة نفوذ واشنطن في القارة ولتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية بالدرجة الاولى يمكن بها تحجيم النفوذ الفرنسي الذي عاد هو الآخر بقوة الى الساحة الافريقية.. عادت امريكا وعادت فرنسا الى أفريقيا وعاد الصراع بينهما مرة اخرى والحلبة الجديدة هي دول القارة الفقيرة النامية التي يبدو وانها ستحدد ملامح النظام الدولى الجديد في المرحلة القادمة .
|