للكلمات سحر على العقل يبلغ حدا معه يمكنها أن تتراقص به وتضل به عن سواء التفكير. بحيث تجعل من نفسها مكان التفكير نفسه، يقول بعض العلماء إن التفكير مربوط باللغة. بدون كلمات لا يوجد تفكير. يعني عندما يقول لك أحدهم (وش بلاك تهوجس) هو في الواقع يقول لك لماذا تفكر؟ وإذا دققت في هواجيسك سترى أنها سواليف داخلية بينك وبين نفسك أو بينك وبين العالم. وهذه الهواجس لا يمكن أن تكون بدون كلمات. ولكن إذا كانت الكلمات مادة التفكير فهي ليست بديلا عنه. عندما تتجول في البلاد العربية والعالم الثالث بأسره وتراقب بشيء من التأني، ستلاحظ أن للكلمات سطوة لا حدود لها. إلى درجة أن الكلمة تزيل ما تعنيه وترمز إليه وتحل مكانه لتلغي التفكير نفسه. فكلمة ديموقراطية مثلا، هي كلمة مستوردة المعنى والدلالة الاصطلاحية وتدور في أفواه الناس يوميا تقريبا ولكن لا أحد يحتاج أن يعرفها أو يتحقق منها، لا أحد يريد منها مدلولها يكفي أنها موجودة. في بعض الدول العربية تستخدم بمعان كثيرة ليس بينها معناها الأصلي الذي نحتت له. ولكنها في الوقت نفسه بارزة لها حضور لا يطاق. وهذا ينطبق على كلمات كثيرة مثل (تقدم، تنمية، عدالة) حتى كلمات عريقة وقديمة قدم اللغة مثل (حياة، صحة، امرأة) خرجت أيضا وأصبحت في فضاء تعاني من وحشة الابتعاد عن معانيها.
لا أدري كيف أفسر مثل هذا لكني اعتقد في بعض الأحيان أن الإنسان في العالم الثالث يعيش خارج الزمن لا يعرف من سياقه سوى الماضي. فهو يسير نحو المستقبل بطريقة التجديف في القارب يعني أنه يسير إلى الأمام ووجهه نحو الخلف. (هذا التشبيه البلاغي ليس من انتاجي). الإنسان في العالم لا يرى ما يمكن أن يصطدم به. لا يرى ما يمكن أن يصل إليه قبل أن يصل إليه. فالمعاني التي يصل إليها لا يراها إلا بعد أن تصبح في الماضي، أو يفاجأ بها في حاضر حياته.
لو زرت سنغافورة أو ماليزيا أو حتى الصين اليوم سترى أن هناك دفعا واضحا لوضع الكلمات في مكانها من معانيها. لا تستخدم ديموقراطية خارج معناها لا تستخدم صحة خارج معناها.. ربما تكون معانيها وما ترمز إليه غير موجودة أو ضعيفة الحضور العملي في تلك الدول ولكنها لم تنتزع من أذهان الناس.
عانت الصين فترة طويلة من مرض انتزاع الكلمات من معانيها ولكنها لم تحصل على التقدم الحالي إلا بعد أن أقرت بحق الناس في استخدام الكلمات الصحيحة.
كل بلد من بلدان العالم يتوفر على برامج صحة. تستطيع كل دولة أن تتحدث وتتغنى بمستوى الصحة بتمطيط الكلمات وتوسيعها حتى يصل الناس إلى حالة من الخروج من المعاني بحيث يتحدثون عن الصحة وهم يعانون من كل الأمراض، يتحدثون عن حقوق الإنسان وهم يعانون من أشكال الاضطهاد ليصل الإنسان إلى مرحلة لا يجد ما يمكن أن يطالب به. فالكلمات المنتفخة تعبئ كل الفراغات فلا حاجة بعدها إلى دلالاتها.
|