«3/3»
و«الديمقراطية» الحقة كما يراها الغربيون ذات سمتين:
- مشاركة الشعب في سن القوانين: «المصدرية».
و:
- مشاركة الشعب في اختيار نوابه وحكامه «النيابية».
ولا تتحقق إلا بالتوفر على السمتين. ولكن متى رضيت الأمة بحكومة تستمد سلطتها من مجموعة مؤسسات مختارة أو مرشحة، وقامت هذه المؤسسات بما تقتضيه المصلحة العامة، توفر الانسجام، وتحققت الشرعية. وفي ظل التحولات في المفاهيم فإن هناك «ديمقراطية» قديمة، وأخرى حديثة.
بمعنى أن هناك «ديمقراطية» مباشرة أو صرفة. وأخرى نيابية. والنيابية لا تقتضي استمرار الشعب في ممارسة الحكم، وتنفيذ المسؤوليات كما تراه «النظرية الثالثة»، وإنما يختار الشعب نواباً عنه، يقولون ويتصرفون باسمه، ويتوخون مصالحه، ويمنحون السلطة مشروعية الفعل، وقد يتولى أهل الحلّ والعقد اختيار النواب، بحيث تتوافر الكفاءات والتخصصات. ومع كل ذلك فإن هناك اشكاليات عدة تتمثل في موضوع «الأهلية: العقدية والحلية» تراها طائفة خاصة بعلماء الشريعة، فيما يراها آخرون مشاعة بين مختلف التخصصات ومجالات التجريب. وفي الخلط بين المبدأ والإجراء، وأسر الخطاب بين ثنائية الخير المطلق أو الشر المطلق، وفي اختلاف المفاهيم، وجهل المحطات التاريخية للمصطلح، إذ كلما تقادم العهد بالديانات أو بالمصطلحات، تبدلت الديانات غير الديانات، والمصطلحات غير المصطلحات. وما الذين يُبعثون على رأس كل مائة سنة ليجددوا للأمة أمر دينها إلا تأكيد على انحراف التأويل، واختلاف التصور، وابتعاد الأمة عن محجة الدين البيضاء، بسبب تعدد القراءات المحكومة بالأنساق الثقافية، والبنى الاجتماعية، والتعصب المذهبي. ولو أن المتعقب لتاريخ أي مصطلح أرجع البصر كرة أو كرتين، لانقلب إليه بمفاهيم متعددة، قد يناقض بعضها بعضاً.
ولو ضربنا الأمثال ببعض العمليات الإجرائية واختلاف الملأ حولهما، لكان أن تبين لنا كم هو الفرق بين طائفة وأخرى، ك«الانتخاب» و«الاختيار»، ومتى استطاع المرتبون للإجراءين تلافي السلبيات حققنا الفائدة المرجوة، دون الدخول في مأزق الرهان أو المفاضلة، وليس من الصحافة لأي نظام تشريعي او تنفيذي ان يرسل صوته لعراك المفاضلة أو التصدير، فليس «الاختيار» أفضل من «الانتخاب» على إطلاقه، ولا «الانتخاب» افضل من «الاختيار» على إطلاقه.
وتفويض الانتخاب للرأي العام يتطلب وعياً حضارياً، لا يستحضر معه سوى الكفاءة والأهلية.
ولما كان الانتخاب مرحلة تالية للاختيار فإن الصيرورة تتطلب وعياً جماهيرياً وحيادية تامة، لا تلعب فيها الاقليمية او القبلية أوالطائفية أو الحزبية دورها الانحيازي السلبي، على شاكلة «متنبئ حنيفة» و«شاعر غزية»، وليس هناك ما يمنع من الاعتماد على الإجراءين، كمرحلة انتقالية.
والخلوص من هواجس الطهر الملائكي والعصمة المطلقة يحدو الى اصطحاب التجديد المتواصل المتحامي للطفرة والارتجالية. والتجديد: الجزئي أو الكلي، المرحلي أو الناجز يعني العودة الى المنابع الصافية، وتجريد النصوص مما تراكم عليها من تأويلات محكومة بالمذهبية او الطائفية. وقراءة النص قراءة واعية، قراءة استكناهية، تحقق المقاصد والغايات، وتوفر الحلول المناسبة للنوازل التي لم تكن معروفة من قبل. وليس هناك ما يمنع من تفعيل المقتضيات الإسلامية البعيدة كل البعد عما يتصوره البعض فيها من «طوباوية» مستحيلة، فالنصوص تراعي الأحوال والطبائع وتستشعر الضعف البشري وطغيان الشهوات والغرائز، وذلك بعض واقعية الإسلام وشموليته، المتمثلة بانفتاح نصوصه، وقدرتها على تقديم أنجع الحلول وأيسرها على الناس. ومقاصد الإسلام وغاياته تراعي حاجات الإنسان: الروحية والجسدية، الدنيوية والآخروية، والدين الإسلامي إذ لم يكن شعائر تعبدية ولا طقوساً دينية وحسب، فإنه شرعة ومنهاج، ومن ثم أكد مصدراه على الحكم بما أنزل الله. والذين يمارسون التفلت من هيمنة الإسلام وتبيانه لكل شيء، يحسبون أن الدعاوى حول التجربة الإسلامية هي التي آلت بالأمة الإسلامية الى ما هي عليه، ومن ثم يظنون بدينهم السماوي ظن السوء، ولو عرفوا ما هم عليه، لكانوا أسرع الأمم عودة الى عقيدتهم، واتخاذها شرعة ومنهاجاً، فهي المنقذة من ترديات الحاضر، ونحن في هذه الظروف العصيبة أحوج ما نكون إلى واقعية متزنة مرنة، وأحوج ما نكون الى الابتعاد عن الثرثرة «الديماغوجية» لكي نهيئ أنفسنا لآفاق «استراتيجية» رحبة، والتطلع الى الحاكمية الإلهية لا يعني القطع بقيام خلافة إسلامية واحدة، تُّزوى لها الأرض، ويبلغ سلطانها ما بلغته الشمس.
وإذ تكون لكل فكر سياسي أسسه: القومية أو الإقليمية أو العلمانية أو العقدية، فإن الفكر السياسي الإسلامي يعتمد الأساس العقدي {ان اكرمكم عٌندّ الله أّتًقّاكٍمً}. والحاكمية، ذلك ان مبدأه الأول { إنٌ الحٍكًمٍ إلاَّ لٌلَّهٌ } ثم تتعاقب: مبادئه، وأطره، وأشكاله، وواجباته، وحقوقه: للراعي والرعية. فمن مبادئه: المساواة، والعدالة، والإحسان، والحرية، والشورى. ولقد شهد لهم أعداؤهم بالتفوق لو عقلوا. يقول «دوسون»: إن المسلمين لو ساروا على سنة نبيهم، وتحلوا بأخلاق الخلفاء الراشدين، لأصبحت امبراطوريتهم أبعد رقعة، وأبقى على الزمن من الامبراطورية الرومانية.
والفلاسفة الربانيون يعولون في شأن التطبيق «الديمقراطي» على «الناموس الطبيعي» بمعنى ان خالق الكون - حسب رؤيتهم - يفترض فيه العقل والعدل والمحبة، و«الله» في ظل هذا التصور لا يتحقق علوه المعنوي إلا بتوفير الحياة الكريمة للمخلوق، وقد يطلق عليها البعض «الحقوق الطبيعية» وهي مقتضى «العقل الكلي». وهذا الإيمان يمثل «توحيد الربوبية» عند المسلمين، وقد آمن به مشركو مكة، ويتجلى ذلك في حوار الرسول معهم، كما جاء في القرآن {فّسّيّقٍولٍونّ اللهٍ} وبهذه التصورات يرى الفلاسفة حتمية «الديمقراطية»، وذلك من خلال المنظور «الميتافيزيقي» الذي يؤمن بشطر من الغيبيات، التي قد لا تكون مطابقة للرؤية الموافقة للنص المقدس، بوصفه المصدرالوحيد لعالم الغيب، وهم قد لا يجمعون على الإيمان بإمكانية الاتصال بين السماء والأرض، لا عن طريق الوسيط، ولا عن طريق التكليم، ولا عن طريق الإلهام الحسي. وليست هذه المتاهات تعنينا بشيء، وإنما ألمحنا إليها لنتصور المعوقات القبولية التطبيقية.
والمد الثوري العربي تسارعت معه التحولات، واستمر معه التجريب، حتى لقد اصبح المسرح السياسي كالمسرح التجريبي التمثيلي، يعتمد المغايرة سبيلاً للجاذبية، وطرد الملل، والعيش على الأمل. وإذا كان النظارة في المسرح التمثيلي ينهون علاقتهم بمجازفات المجربين بمبارحة القاعة، ولا تتجاوز خسارتهم قيمة التذاكر مع ساعة من نهار، فإن النظارة في المسرح السياسي يدفعون الثمن من دمائهم وأموالهم وأمنهم.
والمغامرون لا يفرقون بين المبدأ والممارسة، ولا بين الثابت والمتحول، ولهذا يمنون بنكسات موجعة، تتجرع الشعوب مرارتها، ولو أنهم عرفوا ما هم عليه، وما يجب أن يكونوا عليه، لحرروا مسائلهم، وأصّلوا معارفهم، وفرقوا بين «التحول» و«الاقتباس» و«الطيباوية» و«الواقعية» والإيمان ببعض الكتاب. ولأن الإسلام كل لا يتجزأ، والدخول فيه كافة مطلب رئيس، لزم أن يتفقه المفكرون، وان يعرفوا ما لهم وما عليهم إزاء دينهم. فالإسلام غني بكلياته ومصطلحاته ومقتضياته، ومع ذلك فالحق ضالته، فكلما وجد أنظمة أو إجراءات تحقق مقاصده، كان له حق الاقتباس، أما التحول من الحكم الإسلامي إلى أي حكم وضعي فهذا يعني الوقوع في نواقض الإيمان، ولقد حسم ذلك النص { )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) } والوقوع في نواقض الإيمان عمداً أو جهلاً اصبح من ظواهر العصر، ومن طرائق الشهرة، فكل رويبضة تريد التعملق تطال بقلمها الثوابت، وذلك مصدر القلاقل العمياء التي جرّت البلاد والعباد الى فتن مدلهمة.
وإذا كانت «الديمقراطية» تعني الحرية أو العدل، أو المشاركة في الحكم، أو ما شئت ان تصفها به فإن «الحاكمية الإسلامية» لا تتحقق إلا بمثل ذلك، دون العلو أوالفساد في الأرض. وإذا سيء تطبيق الإسلام فقد سيء من بعده تطبيق «الديمقراطية». فكل خطاب ثوري يردد ببلاهة معتقة سمات مشروعه السياسي مستهلاً ذلك ب«الديمقراطية» والحرية والقومية والوحدة، مع انه لم يتحقق أدنى حد من تلك الدعاوى الكاذبة، وما أحد نال من «الديمقراطية» بمثل ما نيل من الحاكمية الإسلامية، وكلا المشروعين تعرضا للاخفاق في التطبيق، فلماذا يصار الى العلمانية بحجة اخفاق المسلمين في التطبيق؟ ولم يطلب التخلص من «الديموقراطية» لذات العلة، مع ان التطبيق الإسلامي حقق نجاحات تاريخية ومعاصرة، ومع ما يعتريه من إخفاقات في التطبيق فهو الأرأف والأرحم.
وليست «الديمقراطية» بوصفها عشق المقهورين واحدة، وإنما هي «ديمقراطيات» متعددة، منها المعدل، والمهجن، والمدجن، والمتابع للتاريخ السياسي الحديث ينتابه الذعر، فكل راصد لا يحيل الى الأحداث كما هي في الواقع، وإنما يحيل الى الأحداث كما هي في تصوره، وكما هي في رؤيته، واذ نقبل مقولة : «لا يكتب التاريخ إلا المنتصر» فإننا نجد المنهزم يكتبه بصلف أكبر وعنجهية أشد، وكلما مررت بحقول السياسة في مكتبتي، وهي حقول أقرب الى الاعتباطية «الحقل الثيوقراطي» - اليهودي المسيحي الإسلامي و«الحقل الديموقراطي» بكل تنوعاته و«الحقل الماركسي» و«الحقل التاريخي» و«الحقل التحليلي» و«الحروب» و«التاريخ السياسي» القديم والحديث، و«الغلو» و«الارهاب» و«الحزبيات» و«الحريات» و«العلمانية» و«الجاسوسية» و«الميكافيلية» أحسست بغثيان ودوار. فالمشهد السياسي مخادع مخاتل، و«الميكافيلية» طاغية أو قل مسيطرة. ولربما كانت بداياتي القرائية سبباً في تعميق الشك، فلقد كان قدري أن اقرأ كتاب «لعبة الأمم» وكتب الجاسوسية «ومطارحات ميكافيلي»، و«المذكرات» و«السير السياسية» و«اعترافات المجربين». هذه الثقافة الموبوءة اعطتني نظرة سوداوية من الصعب جداً التحول عنها.
وأعقب ذلك أحداث مؤلمة:
- تتابع الثورات العربية الدموية المجانية.
- فشل التجارب الوحدوية والقومية.
- نكسة حزيران وفاجعة أيلول.
- استفحال القطرية والطائفية وتصنيم الحدود.
- «كامب ديفيد» والتطبيع، والممارسات الشارونية.
- التسهيلات العسكرية.
- حروب «العراق وإيران» «العراق والكويت» «العراق ودول التحالف» و«الحروب الأهلية».
وعلى المستوى العالمي:
-حق الفيتو المعرقل «للديمقراطية».
- نظرية «مونرو» و«سايكس بيكو» اللتان شرعتا انتهاك الحق والحرية.
هذه المحطات الجارحة عمقت اليأس والإحباط، ومع كل الشواهد الشواخص يظل الخطاب السياسي يقول ما لا يفعل، ويدعي بدون بينة، وتظل النخب العربية تسهم في تزييف الوعي، وتبرير الخطيئات، وإذا كان سوط الثوري يسوق الى هاوية الذل، فإن قلم المفكر يقود الى زيف الفكر.
ومهما قيل عن المشاريع من صدق ومن كذب فإن أي مشروع سياسي لا يمكن أن يدق نظره، ويدخل في أدق التفاصيل مثلما هو عليه الفكر السياسي الإسلامي، مع ما يمتلكه من مرونة وانفتاح وقابلية للتطوير، ذلك انه يعتمد على مقاصد عامة كحديث «لا ضرر ولا ضرار» و«أنتم أدرى بأمور دنياكم و«استفت قلبك» كما أنه يعول كثيراً على «العقل» و«الاجتهاد» و«الاجماع» و«القياس» و«الاستصحاب» و«المصالح المرسلة». وعلماء الأصول قعدوا القواعد وأداروا عليها النوازل في أمر العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، وبإمكان الساسة الدخول معهم في دراسة النوازل السياسية، وتقنين الفقه السياسي.
وإذ أعطي كتاب «الأمير» ل«نيقولا ميكافلي» أهمية قصوى، فإن رسالة «طاهر بن حسين» لابنه عبدالله في مستهل القرن الثالث لم يؤبه بها، مع أنها تمثل جانباً من الفكر السياسي الإسلامي، لاشتمالها على نصائح في غاية الدقة والأهمية مثل: تقريب الفقهاء، وحسن الظن، ومباشرة المسؤولية، والعدل، والوفاء بالعهود، وإبعاد بطانة السوء، وعدم التسلط، والتقوى، والخوف، والكرم، وسماع المتظلم، والبشر. وقد ساقها بنصها «ابن الأثير» في «الكامل ج1 ص 364».
وفي كتاب «الديمقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب» اشارة الى الأعباء النظرية في الفلسفة «الديمقراطية»، وهي اشارة ذكية واعية، ف«الديمقراطية» ذات مرجعية «عقلية» مادية تنويرية، بمعنى أنها لن تتخلق في ظل الإرث «الميتافيزيقي» وهذه الظلال تحجب النظر العقلي في المبدأ ، بوصفه ضد الدين، مع أن لها جوانب إجرائية، يمكن أن تعالج في ظل الخضوع للمقتضيات الدينية.
واستدعاء الأنظمة الثورية ل«الديمقراطية» استدعاء مخادع، فهم لا يرون التسليم الشعبي المطلق لها، إذ هي ليست في مصلحة السلطة المطلقة. وإنما هي في مصلحة الأمة. وعلى ضوء ذلك فإن الناس سيختلفون حولها، مما يشكل مخارج للسلطة الثورية، فإذا ضيقت «الديمقراطية» الخناق عليهم، عولوا على الخطاب الديني، وإذا لم يجدوها متمشية مع اللعبة عولوا على الخطاب العلماني أو القومي او القطري، وهكذا تشكل النظريات أنفاقاً، ينفذ منها المتلاعبون في عواطف الجماهير.
والمذاهب السياسية في الغرب على الأقل، وفي المجال التنظيري، تراوح بين المثل العليا والواقعيات، وبين الوضعيات و«الأيديولوجيات» وكل هذه تراوح بين مفاهيم الثبات والتحول. ورذ تقوم «الثيوقراطية» على الأسس الدينية مشكلة نظرية سياسية معتبرة، تقوم الى جانبها أسس «سيكلوجية»
وأخرى «اجتماعية» وثالثة «قومية»، وستظل النظريات السياسية تراوح بين الوضعية
والدينية، وما دامت في القضية السياسية فسحة فإن على الإسلاميين طرح مشروعهم،
واستغلال الفسح المتاحة للتعديل والتبديل، واستثمار أطروحات الآخر، مما يوافق
مقتضيات الإسلام، مع استبعاد فكرة التآمر والصدام، وذلك بالارتداد للداخل، واستثمار
القواسم المشتركة، وهي كثيرة.
|