تناولت الحلقة الأولى من هذه القراءة لكتاب الأستاذ محمد السمَّاك هذا ما أورده في مقدمتي الطبعتين الثانية والثالثة اللتين ركَّز الحديث فيهما عن الحركة الدينية المسيحية المؤيِّدة لليهود، وما حظي به هولاء من حقوق في الدستور الأمريكي لم يحظ بها سواهم، وما تبلور من عداء الغرب للإسلام واعتباره العدو الذي يجب أن يُحارَب، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
أما ما وضعه الأستاذ السمَّاك مدخلاً للكتاب فقد تحدَّث فيه عن رؤية اليهود للمسيحية، وسعيهم للتغلغل في الكنيسة الكاثوليكية وتسخيرها لصالحهم، وشكرهم وتقديرهم للبروتستانت المخلصين لهم. وأشار الى ما ذكروه عن نفوذهم الذي ساعدهم على ترسيخه اعتناق كثير من الزعماء للماسونية. وتحدَّث عن نظرة المسيحيين إلى اليهود، وأوضح أن الكاثوليك يرون في اليهود خطراً على الكنيسة، وأنهم يحتقرون المسيح، عليه السلام، ويصفونه بأوصاف بشعة. ولذلك فإن الكاثوليك عارضوا قيام دولة يهودية في فلسطين. ثم أوضح نظرة الإسلام إلى اليهودية والنصرانية، وتقديره للرسل والأنبياء جميعهم وللكتب المنزلة كلها، وحماية المسلمين لليهود في قرون ماضية. وختم ذلك المدخل بالإشارة الى ان العداء للإسلام والرغبة في قهر العرب كانا - ومازالا - من العوامل الرئيسة التي شجَّعت الصهيونية المسيحية على تجاهل الحقوق الشرعية للفلسطينيين.
ولقد بدأ الأستاذ السمَّاك ما أورده بعنوان محطات تاريخية بارزة بسقوط القسطنطينية بيد المسلمين عام 1453م، وختمها بما سمّاه انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان؛ قائلاً: إنه تم بناء على قرار مجلس الأمن الصادر عام 1978م. ولو كان الأمر كذلك فما الداعي الى ان الدولة الصهيونية ظلت اثنين وعشرين عاماً دون ان تنفِّذ ذلك القرار، وما الداعي لأن تنسحب انسحاباً تسوده الفوضى بحيث تركت كثيراً من الوثائق والمعدّات دون حملها أو إحراقها؟ على أن ما يتصل بموضوع الصهيونية المسيحية من تلك المحطات قد ورد الحديث عنه بالتفصيل في فصول الكتاب فيما بعد.
وعنوان الفصل الأول من كتاب الأستاذ السمَّاك «الصهيونية المسيحية الأوروبية». وقد بدأه بالإشارة الى سقوط الحكم الإسلامي في اسبانيا، الذي كان من نتائجه انتقال أعداد كبيرة من اليهود الى مناطق أوروبا الأخرى. وكان منهم من لديه ثروة علمية او مالية. فتغلغلوا في الكنيسة، واحتلت أدبياتهم الدينية مكانة في ذهن مارتن لوثر المشهور حتى نشر كتاباً، عام 1523م، عنوانه «عيسى ولد يهوديا»، وقال فيه:
«إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف الغرباء. ولذلك علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها كالمرأة الكنعانية تماماً».
ومع أن لوثر غيَّر موقفه فيما بعد بحيث نشر كتاباً، عام 1544م، عنوانه «اليهود وأكاذيبهم» فإن الأدبيات اليهودية التي تسرَّبت الى العقيدة المسيحية تتضح في ثلاثة أمور: الأول أن اليهود شعب الله المختار. والثاني أن هناك ميثاقاً إلهياً يربطهم بالأرض المقدسة في فلسطين. والثالث ربط عودة المسيح بقيام دولة صهيون في فلسطين. وأصبح ما يسمَّى بالعهد القديم المرجع الأعلى لفهم العقيدة المسيحية، وصارت العبرية - باعتبارها اللغة التي خاطب بها الله شعبه المختار - هي اللغة المعتمدة للدراسة الدينية. بل إن مجموعة لفلرز - وهي جماعة بيوريتانية - طالبت الحكومة البريطانية بأن تعلن التوراة دستوراً لبريطانيا.
ومنذ القرن السادس عشر تجاوزت اليهودية حدود العقيدة الدينية لتكون، أيضاً، رمزاً للقومية، وأصبح كتاب العهد القديم كتاباً سياسياً يقوم على قاعدة العهد الإلهي بالأرض المقدسة للشعب اليهودي المختار. وفي عام 1649م وجه عالما لاهوت من هولندا مذكرة الى الحكومة البريطانية طالبا فيها بأن يكون للشعبين الانجليزي والهولندي شرف حمل أبناء وبنات اسرائيل على متن سفنهم الى الأرض التي وعد الله بها أجدادهم.. ومنحهم إياها إرثاً أبدياً.
وهكذا تحوَّلت نظرة هذا الفريق من المسيحيين الى فلسطين من كونها أرض المسيح المقدسة، التي قامت الحروب الصليبية بحجتها، الى كونها وطناً أبدياً لليهود. وتحمّس كروموبل لمشروع التوطين اليهودي في فلسطين منذ ذلك الوقت المبكر.
ولم تقف أدبيات الصهيونية المسيحية عند حدود الكنيسة. بل امتدت إلى الأدب؛ إذ يقول ميلتون - مثلاً - في قصيدته «الفردوس المفقود»: «إن الله سيشق لليهود طريق البحر ليعودا فرحين مسرورين إلى وطنهم.. إنني أتركهم لعناية الله وللوقت الذي يختاره من أجل عودتهم».
وتبع ميلتون عدد من الكتّاب والأدباء المشهورين؛ مثل كولريدج وإليوت، بل ان اللورد شافتسبري قال، عام 1839م: إن اليهود هم الأمل في تجدُّد المسيحية وعودة المسيح.
وكان نابليون أول رجل دولة أوروبي يدعو اليهود، في أثناء تجهيزه لغزو مصر، الى إقامة وطن لهم في فلسطين، ويصفهم في بيان له صدر عام 1798م أنهم «ورثة فلسطين الشرعيون». وكان ذلك البيان أول ترجمة سياسية للصيهونية المسيحية التي أقرّت بما يدَّعيه اليهود حقاً لهم في فلسطين. ومن المؤسف أنه مازال يوجد من الكتَّاب العرب من يمجِّدون غزوه لمصر على أساس أنه بداية للنهضة العربية؛ وذلك في خضمِّ إظهار مودَّتهم لأمريكا وإعجابهم بسياستها ومثلها، وتبريرهم لعدوانها السافر على العراق.
ولقد تحمَّس اللورد بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا، لمشروع اللورد شافتسبري، فأنشأ، عام 1838م، أول قنصلية لبريطانيا في القدس، واختار لرئاستها صهيونياً مسيحياً. وبعد ذلك بثلاث سنوات كتب أحد أنصار الصهيونية المسيحية؛ وهو تشارلز تشرشل - جد رئيس وزراء بريطانيا المشهور خلال الحرب العالمية الثانية - رسالة الى المجلس اليهودي في لندن قال فيها:
«إن استعادة اليهود لوجودهم كشعب في فلسطين أمر ميسور إذا توافر عاملان. الأول أن يتولَّوا بأنفسهم طرح موضوع العودة على الصعيد العالمي، والثاني أن تدعمهم القوى الأوروبية تحقيقاً لهذا الهدف».
وبعد ذلك تتبَّع الأستاذ السمَّاك نشاط الحركة الصهيونية المسيحية لتوطين اليهود في فلسطين؛ مشيراً إلى فشل هرتزل في اقناع السلطان العثماني بمنحهم حق الاستيطان فيها، وموقف بلفور الذي قال: «إنه ليس في نيتنا مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين.. وإن من المرغوب فيه ان تكون لليهود السيادة على القوة المائية،؛ سواء عن طريق توسيع حدودها شمالاً أو عن طريق اتفاق مع سوريا التي كانت تحت الانتداب الفرنسي، كما يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرق الأردن». ثم أصدر وعده المشهور عام 1917م، الذي قضى بمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، وتجاهل وجود الشعب الفلسطيني بعدم ذكره مطلقاً؛ بل أشار الى العرب على أنهم جاليات غير يهودية مع أن اليهود كانوا حينذاك لا يتجاوزون 8 بالمئة من السكان. وسعياً الى تهويد فلسطين عيَّنت بريطانيا اليهودي هيربرت صموئيل مندوباً سامياً لها فيها.
وبدعم منه تحوَّلت الوكالة اليهودية الى دولة داخل دولة، ووصل عدد اليهود الى 17 بالمئة من السكان، وكوّنوا منظَّمتي شترين وأراغون الإرهابيتين اللتين أصبحتا جزءاً من الجيش الصهيوني منذ عام 1948م.
أما الفصل الثاني من كتاب الأستاذ السمَّاك فعنوانه.. «الصهيونية المسيحية الأمريكية». وقد بدأه بالإشارة إلى أن الذين ذهبوا من أوروبا إلى أمريكا، واستعمروها، كانوا من المتحمسين للصيهونية المسيحية، فسمَّوا أولادهم ومستوطناتهم بأسماء عبرانية، وفرضوا تعليم العبرية في مدارسهم. وبلغ من تأثير تلك العقيدة لديهم أن اقترح الرئيس جيفرسون اتخاذ رمزٍ لأمريكا يمثل أبناء إسرائيل تظلهم غيمة في النهار وعمود من نور في الليل- وفق ما ذكر في سفر الخروج - بدلاً من شعار النسر.
وقد عرض الأستاذ السمَّاك نشاط الصهيونية المسيحية في أمريكا، الذي كان من أبرز وجوهه تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين؛ مشيراً إلى ما ذكره الرئيس الأمريكي ولسون من ارتياحه لتقدم الحركة الصهيونية في أمريكا، وتأييده لوعد بلفور، وموضحاً أن موقف ذلك الرئيس كان بتأثير تربيته على يد قسيس علَّمه أن الله أعطاه فرصة لتحقيق الإرادة الإلهية بمساعدة شعب الله المختار على استعادة الأرض التي خصَّه الله بها. وقد أصبح التزامه بوعد بلفور من ثوابت كل الرؤساء الذين أتوا بعده. ومما تجدر الإشارة إليه أن موقف كلينتون كان مشابهاً بموقف ويلسون. فقد ذكر أن الكاهن الذي تربَّى على يديه أخبره أنه إن لم يقف مع إسرائيل فسيغضب الرب.
وامتد نشاط الصهيونية المسيحية الأمريكية إلى حث اليهود على التجاوب مع نداء العودة، وحث السلطان العثماني على قبول توطينهم في فلسطين، وتكوين منظمات شعبية دينية لتوفير الدعم المعنوي والمادي لتحقيق النبوءات التوراتية بعودة اليهود إلى فلسطين.
وجاءت الحرب العالمية الثانية وإذا بالرئيس روزفلت يضغط على بريطانيا لإلغاء قرارها الحد من هجرة اليهود إلى فلسطين، وإذا بخليفته، ترومان، يحثها على السماح لمئة ألف يهودي بالهجرة إليها. وكان مما قاله في رسالة إلى الملك عبدالعزيز، سنة 1947م:
«إن الولايات المتحدة والدول الأخرى الظافرة في الحرب العالمية الأولى قد تحمَّلت مسؤولية معيَّنة بشأن مستقبل فلسطين. وقد أخذت موقفها بعد انتهاء تلك الحرب بأنه يجب أن تكون فلسطين موضعاً للوطن القومي اليهودي».
وهكذا يتضح أن ذلك الموقف المؤيِّد لاحتلال الصهاينة أرض فلسطين قد اتخذ قبل أن يتعرَّض اليهود لما تعرَّضوا له على يد النازية. لذلك لم يكن غريباً ان يتعرف الرئيس ترومان بدولة الصهانية فور إعلان قادتهم عن قيامها، وان يستخدم نفوذ بلاده؛ إغراء لبعض الدول او تهديداً لها، لكي تصوِّت بقبول تلك الدولة المغتصبة عضواً في الأمم المتحدة، ويمنحها معونة بمئة وخمسين مليون دولار، وقرضاً بمئة مليون دولار.وبعد ذلك أشار الأستاذ السمَّاك الى عدد من الشخصيات الدينية والإعلامية المؤثِّرة في تفكير الرأي العام الأمريكي لتقبُّل آراء الصهيونية المسيحية التي من أبرز سماتها تأييد الصهاينة في فلسطين المغتصبة ، والدفاع عن جرائمهم الفظيعة.
|