الأدب الحديث الصادر عن منطقة الحجاز، والرواية تحديدا، تغرف من بحر، وهذا البحر أو النهر الغمر الجاري، يقع حيث تلتقي الشعوب والثقافات والماضي والحاضر والتراث، والأمزجة والأشربة، والخيال والواقع، وجميعها تصطف وتزدان فوق جبال مكة المكرمة ووهادها، حيث سرة الدنيا ومجمع الكون.
يراودني هذا الاحساس تحديدا عندما أطلع على الزخرفة الروائية الآخاذة لروايات رجاء عالم، ومؤخرا رواية (ميمونة) لمحمود تراوري.
قد يخالطك بعض الحذر في البداية عندما تبدأ في الصفحات الأولى، تخشى أن تكون هناك محاولة غير واعية لاختلاس اساطير هوليود وأفلامها حول هذا الموضوع مثل فيلم (الجذور أو اماستيد).
ولكن رواية ميمونة سرعان ما تنجو من هذا المأزق الكبير، وتبدأ في نسج ملامحها الخاصة مرافقة رحلة أفريقية، من قلب الغابة حيث الندى وظلال الأشجار والأنهار النابضة الوحوش المترصدة باتجاه عالم الصحراء وصمت الرمال وحيادية الجبال، والحلم الروحي العميق والشوق الجارف إلى الديار المقدسة.
لذا كانت المادة الخام بين يدي تراوري كثيفة وعبقة بحضارتين عميقتين تتحدان بشكل شرس وغير إنساني، حضارة تحاول من خلال حظوة روحية أن تغيب الأخرى وتشتت ملامحها، ومحاولة الحضارة القادمة من الغابة المستميتة، في الأبقاء على جذوة الأرض الأم.
في رواية ميمونة أولى تراوري عناية خاصة باللغة، تلك العناية التي تسطو على السرد في كثير من الأحيان وتقطع تواتره وانهماره.
وفي مواضيع كثيرة كانت الشخصيات تغيب وتتداخل وتفقد حدودها الشخصية، ولكن على الرغم من كل ذلك، هذا لا يمنع من تأملها كتمثال أفريقي بديع جميل وفق شرطه الخاص.
الحجاز هو منجم من الروحانيات والقدسية والتراث والشعوب والحضارات، وكل رواية صادرة من هناك هي استثمار لمادة خام شاسعة ثرية ولم تكتشف بعد.
| 
