الرسائل الصوتية التي دأبت قناة الجزيرة الفضائية على بثها للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين هذه الأيام هي في المحصلة النهائية تخدم الأمريكيين في العراق وتبرر احتلالهم أكثر من أي شيء آخر، فأغلب العراقيين يختلفون حول قضايا كثيرة، غير أنهم يتفقون على كره صدام ونظامه، والخوف من عودته إلى كرسي السلطة مرة أخرى، لذلك فإن «شبح» هذا الطاغية كلما عاد إلى الساحة العراقية، صوتاً أو صورة، فإن النتيجة ستكون مزيداً من تشبث العراقيين بالأمريكيين، وببقائهم في العراق، لا حباً بجنود العم سام، ولا رغبة في بقاء الاحتلال جاثماً على صدورهم، ولكن خوفاً من عودة «الغول» ونظامه من جديد، ولا شك لدي أن الأمريكيين يدركون ذلك تمام الإدراك فلم يعد خافياً أن «القطريين» يمررون مثل هذه الرسائل على صناع القرار السياسي في واشنطن للموافقة عليها قبل بثها، كما ألمح إلى ذلك أكثر من مسؤول أمريكي، ولو رأى الأمريكيون في هذه الرسائل ما يتناقض مع وجودهم هناك، ولا يخدم مصالحهم، فلن تجرؤ قناة الجزيرة على بثها، لا سيما وأن الأمريكيين يقطنون في قاعدة «العديد» على بعد بضعة كيلو مترات من مقر قناة الجزيرة في الدوحة.
طبعاً صدام لا يمكن أن يخدم من خلعوه، إنما هو «الغباء» السياسي، الذي كان وما زال احدى الخصائص التي اكتنفت تصرفات هذا «الطاغية» منذ حربه مع إيران وحتى حربه مع الأمريكيين فصدام على ما يبدو ما زال يحلمُ بالعودة، ويظن أن بامكانه تحقيق ذلك، رغم انكشافه، وانكشاف أقبية التعذيب الرهيبة، والمقابر الجماعية، والكره الشديد له ولنظامه من قبل العراقيين أنفسهم، والذي ظهر بوضوح بعد سقوط بغداد، الأمر الذي جعله يبدو أمام العالم كله وكأنه وحشٌ بشري يعيش على التهام لحوم البشر بشراسة وشراهة ونذالة لم يجاره أحدٌ فيها على مرّ عصور التاريخ، لتصبح عودته من جديد إلى السلطة ضرباً من ضروب المستحيل.
ومن قراءة متأنية لما وردَ في الرسالتين الصوتيتين اللتين بثتهما قناة الجزيرة مؤخراً يبدو أن صدام يُعيد أسباب هزيمته، ليس لأسلوبه وبطشه ولا إنسانيته، وقبل ذلك غبائه السياسي، وإنما لشعاراته البعثية التي كان يرفعها لذلك فقد ظهر في تينك الرسالتين بخطاب جديد يتوشح بالدين، ويتكئ على مفاهيم الإسلام، في محاولة لاهثة عابثة لتغيير وجهه، والتخلي عن «أيديولوجيته» السابقة، وركوب موجة «التأسلم» التي هي موضة الثوريين العرب هذه الأيام، عسى ولعل أن تكونَ جسراً يعبر من خلاله إلى السلطة مرة أخرى، وكأن الناس، والعراقيين تحديداً دونما ذاكرة.
وفي تقديري أن المقاومة العراقية، مهما اختلفنا معها ومع مبرراتها وتوقيتها، لن يُجهضها ويلوثها ويُفرغها من أي دعم جماهيري عراقي أكثر من أن تكون مرتبطة بصدام حسين أو أحد أبنائه وأعضاء نظامه.
وهذا في رأيي ما دفع الأمريكيين وشجعهم على الموافقة على بث مثل هذه الرسائل، ومن ثم تأكيدهم على أن تحليلهم التقني لمحتوياتها يُثبت أن صوت المتحدث فيها هو بالفعل صدام حسين.
ولو كنت من المؤمنين بنظرية المؤامرة لقلت إن «إبقاء» هذا الطاغية حياً، هو مؤامرة أمريكية، تهدف إلى امتصاص غضب العراقيين وتذمرهم من الفشل الأمريكي الذريع في إدارة الشؤون العراقية بعد إسقاط نظام البعث، وإشغالهم باحتمال عودة صدام، فالعراقيون يخشون خطر عودة الطاغية أكثر من أي خطر آخر، وكلما نفش الأمريكيون من «جائزة» القبض على صدام، والتي أوصلوا قيمتها إلى خمسة وعشرين مليون دولار كما أعلنوا مؤخراً، كلما أكدوا أهميته، ليبقى بمثابة «الفزاعة» للشعب العراقي، ريثما يتدبرون أمرهم، ويخرجون من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه، ويُعيدون ترتيب أوراقهم هناك من جديد.
|