كل نعمة منحها الله للعباد فهي منحة وابتلاء في الوقت ذاته، والمشكلة أن الناس يدركون ذلك جيداً في عالم الماديات ولكنهم لا يكادون يحسونه في عالم المواهب والمنن النفسية.
الأمة- بمجموع أفرادها- مطالبة شرعاً بتحقيق ذاتها وتحمل مسؤولياتها والقيام بواجبها، ولم يكلفها الله بهذه المهامات الجسمية إلا لعلمه سبحانه بأن في أفرادها ومجموعاتها وشعوبها ودولها من الإمكانيات والقدرات ما هو كفيل بتحقيق ذلك إذا أحسن توظيفه.
وقد ابتليت الأمة بداء التواكل والتلاوم، واتقن بعض رجالها فن إلقاء التبعة على الآخرين والتخلي عن المسؤولية على قاعدة أن المشكلات من صنع الجيل السابق، وسيقوم بحلها الجيل اللاحق!.
والأمر يبدأ من ثقة الفرد بنفسه، واستكشاف مواهبه، والبحث عن ميدانها، وتخطي العقبات مهما كانت فالحياة هكذا.
وكل امرىء مسؤول أمام الله تعالى بحسب ما آتاه الله من قدرة مادية أو معنوية.
فالغني مثلاً يعلم أنه مطالب بالإنفاق في سبيل الخير بما لا يطالب به الفقير، والقوي قد يدري أن قوة جسمه حق للضعيف والكل، وقل مثل ذلك البصير مع الأعمى، والصحيح مع المريض، ولكن.. كم من الناس يشعرون بالمواهب الربانية في عقولهم التي منحوها فيستخدمونها لنصرة الحق والدفاع عنه؟.
وكم من الناس من يوجه نعمة الفصاحة والبيان اللتين أوتيهما للدعوة إلى الإسلام، وفضح أعدائه؟ وكم.. وكم.. أو يظن أحد أن حساب الغني يوم القيامة كحساب الفقير؟ أو أن حساب الذكي كحساب الغبي والبليد؟ أو حساب الفصيح كحساب العيي؟ أو حساب الحافظ كحساب النساء«كثير النسيان»؟ أو حساب الشجاع كحساب الجبان؟ أو حساب المسؤول كحساب الفرد العادي؟.
إذاً فاليقرأ قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي الآية تسلسل عجيب:
فالحقيقة الأولى: جعلكم خلائف الأرض، فالبشر خلفاء استخلفهم الله في الأرض لينظر كيف يعملون، وأصل وجودهم فيها هو لهذا، وهو قدر يشترك فيه جميع المكلفين.
والحقيقة الثانية: ورفع بعضكم فوق بعض درجات، هكذا: درجات، لتشمل جميع أنواع التمايز والاختلاف والتفاوت بين الناس، في أموالهم أو أجسامهم أو عقولهم أو ملكاتهم أو مواقعهم ومسؤولياتهم.. وهذه سنة إلهية محكمة» {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }.
والحقيقة الثالثة: ليبلوكم فيما آتاكم، فهذه«الدرجات» هي «لييلوكم فيما آتاكم»، فكل ما رزقكم الله من المنن الظاهرة أو الخفية فإنما ليبلوكم به، هل تنجحون في تسخير مواهبكم للإسلام؟ أم تضيعونها هدراً؟ أم تجعلونها حراباً في صدور المؤمنين؟.
والحقيقة الرابعة: إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم، فإذا استثمر العبد ما منحه الله في معصيته وتكذيب رسله أسرعت إليه العقوبات في الدنيا والآخرة، وإذا بذل ما يملكه في سبيل الله تجاوز الله ما يحدث منه من سهو أو تقصير، لأنه غفور رحيم.
فيا بؤساً لأولئك الذين ضيعوا عقولهم الكبيرة هدراً في دراسات عقيمة.. لاتنفع في دين ولا في دنيا.. وما أكثرهم.
ويا خسارة أولئك الذين طاوعهم البيان فصاغوه قصائد غزل سخيف غير عفيف.
دون أن يوظفوا شيئاً منه لقضايا أمتهم وشعوبهم.
وكم يحز في النفس ويملأ القلب أسى وكمداً أن كثيراً من ذوي الكفاءات والمواهب البارزة من الصالحين قد عبث بهم الشيطان، وزين لهم القعود عما أوجب الله عليهم، تارة باسم الزهد في الدنيا، وتارة باسم إيثار الخمول والبعد عن الشهرة، وتارة باسم الخوف من الرياء، وتارة بحجة عدم الكفاءة وأنه يوجد من هو أفضل مني وأجدر.. ولو أتيت هذا القاعد المتثاقل وتسللت إليه بالحديث رويداً رويداً لحدثك عن فساد الأحوال وقلة الرجال، وكثرة الأدعياء، وخلو الساحة، وتفاقم الخطب!..
فيا سبحان الله! لمن تركت الساحة إذاً يا عبدالله؟ ألا ترى أنه صار فرض عين عليك وأنت تأنس في نفسك قدوة في مجال «ما» أن تبدأ الطريق، وتدع عنك التعليلات الواهية؟! أو لست تقرأ في صلاتك وتقول في دعواتك: )} رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) } فهل يجدر أن يدعو المرء بهذه الدعوة ثم يعمل على خلافها؟..
لقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبذل الأسباب التي نستطيعها في تحصيل ما نريد ثم ندعو الله تعالى ولذلك لما أراد الرسول- صلى الله عليه وسلم - فتح مكة وضع العساكر والحرس على أنقاب لئلا يتسرب الخير إلى مكة وبذل جميع الأسباب المادية الممكنة ثم توجه إلى الله بالدعاء أن يعمي الأخبار عن قريش.
ومما يذكر عن عمر رضي الله عنه أنه رأى إبلاً جرباء فسألهم: ماذا تصنعون لعلاج هذه الإبل؟ قالوا: عندنا عجوز صالحة نذهب إليها فتدعو لها! فقال رضي الله عنه: اجعلوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران!!.
إن ساحة العلم الشرعي والدعوة تشهد نقصاً شديداً ينذر بالخطر، ولا غرابة حينئذ في تصدر غير المؤهلين ممن لا يعنيهم كثيراً توفر الشروط!.
وإنه لورع عجيب غريب.. أفليس من الورع أن يفعل الإنسان ما يشتبه بالواجب؟ أو ما يشتبه بالمستحب؟ فيقوم بالتعليم والدعوة والخطابة خشية أن يكون شيء من ذلك واجباً متعيناً عليه؟ أم أننا صرنا في عصر القعود، وأصبحنا نفسر« الورع» بالترك.. ترك ما يشتبه بالحرام أو يشتبه بالمكروه؟.
|