لا توجد إحصائيات عن عدد الدراسات والتوصيات التي تتحدث نتائجها عن تدهور الحال العربية على جميع المستويات، وتنبئ بحجم العوائق التي تقف حائلاً ضد كل منافذ الخروج من الأزمة الحضارية العربية، فالعالم العربي على الرغم من الثروات الطبيعية التي يحظى بها، في حال من التخلف الشديد، مقارنة مع مناطق أخرى من العالم لا تتمتع بمثل هذه الثروات. والإنتاجية تراجعت إلى مستويات بالكاد تتجاوز معدلات افريقيا الواقعة في جنوب الصحراء حيث يسود الجوع والأوبئة. فالميزانيات السنوية لا تخصَّص للعلم والتكنولوجيا سوى أجزاء زهيدة من الناتج القومي، ولا تقرر توفير ضمانات اجتماعية في التعليم التقني والعالي والصحة، بينما يشعر المثقفون ودعاة الإصلاح في البلدان العربية كافة أن عليهم الفرار من محيط سياسي واجتماعي خانق إن لم يكن قمعياً.
فالإنسان في أغلب المجتمعات العربية يعيش بلا ضمانات، ويستمد طمأنينته في الأمل والدعاء بأن لا تحل كارثة اجتماعية في محيط عائلته، وان يحمي الله صحته وصحة أبدان والديه وأبنائه، فإن حدث وأصاب أحدهم داء مزمن أو خطير، عندها سيواجه إما عاقبة الاستسلام لقدر المرض، أو تحمل نفقات علاجه الباهظة، ثم الاستعداد لتلقي ضربات الهزيمة المؤلمة أمام تحديات المستقبل المكلفة، فأي عالم هذا الذي يبيع فيه الإنسان منزله و«مزرعته» ومصدر رزقه، ليدفعها لصاحب المستشفى الخاص كتكاليف علاج لمصيبته المزمنة، وأي حكومات عربية تلك التي ترسم الخطط من أجل التقدم نحو الصفوف الأولى، ولا يكون ضمن خططها التنموية ضمانات اجتماعية في مجال التعليم والصحة، وفرص عمل جديدة للأجيال القادمة..
وأي عالم هذا الذي لا يتحرك لإنقاذ «أم محمد» من أزمتها الصحية وكارثتها الاجتماعية، فقد شاء قدره سبحانه وتعالى أن يمتحنها بأربعة أبناء مصابين بالإعاقة الجسدية والذهنية، في واقع ليس فيه آليات وضمانات اجتماعية بينة..، لتواجه قدرها وتمتهن وظيفة البحث المستمرة عن صدقات الذين يستثمرون في أعمال الخير، وأولئك الذين يبحثون عن وسيلة لتطهير أموالهم من عبث التجارة، فما أصعب ان تعيش على الأبواب تنتظر، وتطرق أبوابهم ونوافذهم وتسأل عما يسد رمق الحال ويستر الأبناء من بؤس الشقاء في رحلة الحياة العربية.
أي عالم هذا الذي يتخرج فيه عبدالله من الثانوية، شاب في مقتبل العمر، حاد الذكاء الذهني والعاطفي، يكاد أن يتفجر من بين ضلوعه الحماس والطموح والرغبة الشديدة في التطور وإثبات الذات في عالم التحديات والنجاح، وبرغم من كل ذلك، لا يحصل في مجتمعه على فرصة تعليمية عالية، ولا يوفر له ذلك العالم اللامبالي مجالاً لتفجير طاقاته ومواهبه الفذة، وإن اجتهد في بحثه في المؤسسات والشركات الوطنية، فقد يجد وظيفة «مراسل»، ينقل أوراق ورسائل مختومة، قد يكون من بينها «رسائل» توصية من المدير العام للاهتمام الخاص «بالابن» في طلبه للالتحاق بالجامعة أو المؤسسة الحكومية.
وأي عالم هذا الذي يغرق الإنسان في بحاره هرباً من جحيمه، فقد غرق الشباب اليائس في رحلة العبور للمتوسط في اتجاه ساحل النجاة الأوروبي، حيث سمو الحق العام وتطور مرافقه، وقدرته على تجهيز متطلبات وأسس مكونات الإنسان القادر على النجاح أي كان.. وذلك من خلال تكافؤ الفرص، ومؤسسات المجتمع المدني ونشاطاته في الدفاع عن الحقوق الفردية والجماعية..
إنه زمن مسكون بتلك الضبابية التي تعمي العيون عن التمييز بين الشأن الخاص، والعام، فالخاص بكل أدواته وقواه وآليات سيطرته، يفرض على الشأن العام السقوط من أجل فرص تجارية اواستهلاكية أكثر، ويعصف بمقدراته، وببقية من الأمل في أن تحترم على الأقل الخطوط والفروقات الفاصلة بين الخاص والعام بصورة لا تقبل المزايدة، وترفض دخول صفقات التجارة الرابحة ميدان حاجات المواطن العربي الضرورية.
لقد اجتاحات الرغبة الجنونية مرابع الاستقرار العربي، فصار كل مواطن يحاول أن يصبح تاجراً، بأي وسيلة كانت، فالوسيلة في هذا العالم المتصارع تبررها غاية النجاح، ولهذا يترك الطبيب عمله الذي ضمن إطار العام، الى حيث الخاص.. المال والرغبة في الخروج من درك المتخلفين عن الركب، كذلك يهرول في ذلك الاتجاه المحامي والمهندس والمربي وحتى الأديب والشاعر والصحافي، كل يريد أن يصبح تاجراً بشكل أو بآخر.
لتزداد الهوة داخل الكيان الاجتماعي العربي الواحد بين أصحاب الدخل المباشر وغير المحدود وبين أصحاب الدخل المحدود وغير المباشر، وذلك الهروب تدفعه سيطرة الخاص في هذا العالم الذي تتسع فيه الفجوة بين الخاص والعام، وتتزايد تباعداً حتى يتهيأ للمتابع ان الشأن او الحق العام اندثر او اصابه الضمور والمرض والتخلف، ولا يكترث «الخاص» الناجي من وباء ورداءة الخدمات العمومية ان حدثت، ففي رداءته استثمار مربح، ترتكز عوائده على حاجات تلك الطوابير التي تنتظر ساعة القضاء، بعد ان فشلوا في رحلة العبور من الطبقات الدنيا الى العليا، او من العام الى الخاص، بعد اندثار الوسطى منها، وانحسارها في جيوب اجتماعية نادرة، تقاتل من اجل الفوز بطوق الخلاص، فالخائفون من خسارة قاتلة في الوقت الضائع، يفعلون المستحيل لكي يهربوا من مصير أم محمد، ومن مستقبل الشاب عبدالله.. ومن مصير البقية المحتوم غرقها في مياه المتوسط.
فالنجاة.. النجاة هو شعار هذه المرحلة في عالمنا العربي المتخلف عن ركب الحضارة، وغياب حقوق الضمان الاجتماعي والصحي والتعليمي، الذي فرضته خصخصة الواقع وضرورياته، هو مضمار ذلك السباق المحموم بين مصلحة الفرد، ومستقبل المجتمع.! والمعركة الحالية بين الشأن الخاص والعام هي في واقع الأمر صراع من أجل البقاء، وتطبيق لمفاهيم نظرية البقاء للأقوى والأغنى في الداروينية الاجتماعية، التي يجب ان يفهمها العرب في إطارها العام، وليس ضمن مصلحة الفرد فقط، حيث يؤدي عنصر المنافسة في تلك النظرية الدور الأهم في تطور الشعوب، فمنها خرجت الرأسمالية والثورات الصناعية والتقنية، وتطورت المجتمعات الغربية، لتصبح قوة تهمين على العالم، ولكن لكي لا تسري على نتائجها في مجتمعاتنا قوانين الغابة، يجب أن يبقى ذلك السباق الفطري كما هو الحال في الغرب في إطار المنافسة الشريفة والقيم السامية التي تضمن للجميع حقوق متساوية، وضمانات عامة لأولئك الذين خسروا في هذه المرحلة لأسباب موضوعية.
عالم عربي غير مكترث، وغير آبه بما يحدث خارج أسوار «الخاص»، فالتقارير التي تحذر من نتائج الأمس، تنبئ بكارثة في المستقبل، والأحداث الجسام لم تعد أيضاً تحرك حالة السكون والركود القاتل في جسد الحالة العربية، فقد توقف الكثير من المثقفين والدعاة عن الترهيب من تداعيات هذه المرحلة، ومن الترغيب في استعجال الإصلاحات، حيث لا صدى لنداءاتهم، ولا استجابة لتحذيراتهم، فأولوية المصلحة العامة ومجتمع تكافؤ الفرص هو الجو المثالي الذي يهيئ للفرد فرص النجاح والانتصار في معركته الخاصة وهو في حالة مثالية من الوعي والأمن الاجتماعي والصحة النفسية والبدنية، عناصر في منتهى الأهمية لاستمرار وضع الاستقرار في الأوطان.
لكن الجيل الحاضر من الراشدين لا يزال في عالمنا العربي يتلقى سلسلة لا نهاية لها من الوعود والآمال الوهمية واللاواقعية ويعيش في حالة من التردد الثقافي والتذبذب الأيدولوجي. فالفساد وتخصيص المصالح يهيمنان على أعلى مراتب السلطة الإدارية، ويشكلان نموذجاً تسعى جميع الفئات الأقل نفوذاً للالتحاق به، وهو ما يؤدي الى تأصل ثقافة الفساد وتأهيلها لتحل محل مناهج الإصلاح والتنافس الشريف، وما يلمسه الكثير في وطننا العربي الكبير: أن لا حياة لمن تنادي، فلم يظهر بعد في الأفق لائح من ذلك الأمل، ولا يوجد تفسير لذلك.. إلا أن الركب العربي لا يزال متوقفاً في «زمن» اللامبالاة.
|