Monday 7th july,2003 11239العدد الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ما بعد الحداثة (2) ما بعد الحداثة (2)
د. عبدالرحمن الحبيب

مفكرو ما بعد الحداثة يرون أن النظريات الشمولية الكبرى والإيديولوجيات التي أنتجتها الحداثة وتراثها الفكري أخفقت في الإجابة على كثير من الأزمات، خاصة في ادعائها الموضوعية المتجردة من الانحياز وزعمها بالتجانس والتماسك والعلمية.. وسعيها الواهم وراء الحقيقة بواسطة منطق أخلاقي عقلاني وافتراضات متفائلة تؤمن بأن التقدم التكنولوجي يصاحبه بالضرورة تقدم في الحقوق والمبادىء الإنسانية والسعادة البشرية.. لذا فإن ما بعد الحداثيين يرفضون التعميمات الشمولية مفضلين تأويل العالم والأشياء كخصوصيات بسياقاتها ومستوياتها المتعددة، ولا يميلون للتجانس الذي يلغي التنوع الحاصل فعلا، ويعترضون على وضوح الفكرة مقابل التضحية بدقتها، وينأون عن الأجوبة القطعية المريحة متبنين الاحتمالات المتعددة المزعجة، ويرفضون الأجوبة الكاملة الشاملة مستعيضين عنها بالأجوبة النسبية والجزئية والمتشعبة اللانهائية وغير المستقرة لكل حالة.
المدرسة الوضعية التي أنتجتها الحداثة تعتقد بوجود حقائق موضوعية يمكن توضيحها وتفسيرها والاستفادة منها بواسطة منهج أو نظرية موضوعية قابلة للاختبار ومجردة نسبيا من أية ثقافة مسبقة أو مصالح أو حالة مزاجية. ويرى لما بعد حداثيين أن ذلك مجرد تدليس أو خدعة للقوى المهيمنة للسيطرة على الشعوب ومقدراتها بواسطة صور ذهنية تزعم التجرد من الانحياز، لأنه لا يمكن فصل الحقائق عن المراقب لها الذي يزعم إدراكها وتمييزها، ولا يمكن فصل ذلك عن الثقافة التي تزوده بالتصنيفات المعيارية.. وباختصار، إن إدراك الحقائق الواقعية مجردة عن الذات والثقافة المسبقة والمصالح غير متاحة.. وبالتالي فإن الموضوعية وهم وغير موجودة في هذا العالم، وخير للمراقب أن يخبرنا عن نفسه وعن ثقافته وليس عن الحقائق التي يزعم إدراكها، وحتى في هذا الحالة فإنه ليس هناك الكثير مما يمكن أن يخبرنا به، لأن الحقيقة مراوغة متعددة الأشكال والمفاهيم والمعاني فينبغي استبدال الحقيقة الموضوعية بالحقيقة التأويلية لأنها تحترم خصوصية أو ذاتية موضوع الاستقصاء والمستقصي والمتلقي.
ودعاة ما بعد الحداثة يُدخلون المعنى في سباقات ومستويات متنوعة بدلا من سياق واحد تاريخي، اجتماعي، أدبي.. أو بدلاً من مستو واحد في فروع هذه السياقات بل يستحضرون الحالة بكل سياقاتها ومستوياتها الممكنة كاسرين الحواجز بين فروع المعرفة وانعكاساتها الحضارية.. مثلا، الما بعد حداثيين يلغون الفصل بين اللغة والواقع الذي تصفه.. فاللغة ليست مرآة وصفية بل طريقة في التفكير ورؤية نمطية مسبقة للأسماء، ومن ثم فاللغة منحازة تشارك في خلق الواقع وتمتزج معه عبر اتحاد المشير والمشار اليه.. فالمعنى ليس أداة تحليلية بل فكرة مفهومية ووسيلة لدغدغة الذات.. هنا يبدو المعنى الإجرائي وليس الحقيقي الموضوعي المستقل قريباً من تفسيرات ما بعد الحداثة.
وبحسب الفرضية السابقة خاصة مع الإفراط فيها والغرق في النسبية اللامحدودة والتأويلية الذاتية يكمن أحد مآزق ما بعد الحداثة، وهو تحديد أو تعريف أو تفسير الأشياء، فإذا كانت الحواجز ملغاة على هذا النحو واللغة منحازة والمنهج تلفيقي والموضوعية وهم؛ وإذا كان التعريف يتحد مع صورته أو لغته لدرجة لا يعرف معها ما إذا كانت اللغة هي التي تعرِّف الأشياء كما تراها، أم أنها حقيقة هي ذلك التعريف، أم بين هذا وذاك أم شيء آخر.. عبر كل ذلك، كيف يمكن تعريف الأشياء وإبراز معانيها؟ لذا يرى أحد منتقدي ما بعد الحداثة متهكماً أن المفكر الما بعد الحداثي الجيِّد هو ذلك الذي يلتزم الصمت.. ولربما ستقوم إحدى الصيغ العبقرية للما بعد حداثية بدفعنا يوما ما إلى الإعجاب بصمته العميق الفريد، مثلما يفعل تقريباً أحد الرساميين الطليعيين حين يضمن الإعجاب بلوحة قام ببساطة بتغطيتها بطلاء أسود متماثل!! (أرنت غيلنر).
في الأدب حوَّل الحداثيون مجاله إلى الذات وخصوصية تيار الوعي، ولكن الما بعد حداثيين الذين يشككون في كل المفاهيم يزعمون أنهم بتصوراتهم نزعوا قناع آليات ووظائف الذاتانية، ووضعوا بدلا منها موقع قواعد الموضوعية داخلها مشككين في هذه الأخيرة أيضا ومن ثم مفقدين الاستقرار لكل شيء!! (أرنت غيلنر). وفي السياسة جمعت تصورات الما بعد حداثيي الرابطة بين المساواتية السياسية والثقافية لدى الشعوب وبين التأويلية الذاتية التي أشرنا إليها.
وتتضح ما بعد الحداثة في المعمار أكثر من أي مجال آخر، فهي تعد ثقافة مدينية، حيث المدينة جوهر ما بعد الحداثة، فالمدينة الحديثة تتميز بفضاء مفكك وبتغير حاد متنوع ومتسارع، والتصميم العمراني الجديد الذي نراه في أغلب مدن العالم يشمل خليطاً من المدارس الفنية من شعبية ونخبوية، قديمة وحديثة، منهجية وعشوائية.. والتصاميم الهندسية والأساليب الحضارية مختلفة وفقا لذائقة شديدة التنوع وغير مستقرة، مقابل المعمار والتصميم الحداثي السابق المبني على رؤية عقلانية جمالياً وتصميم ينتمي لمدرسة أو أفق حضاري معين.
إنها القرية العالمية حسب «جيكنز». إنها ما بعد الحداثة حيث تتجاور القيم والأفكار والأساليب والجماليات قديمها وحديثها.. ويمتزج الشكل بالمضمون، والطارىء بالمزمن، والمنهجي بالعشوائي.
من ذلك كله نجد أن مفهوم الزمان والمكان في ما بعد الحداثة لم يعد على ما كان عليه.. هنا تتواقت الأزمنة وتتجاور الأمكنة وتتداخل الأذواق وتهتز الإيديولوجيات وتضطرب المفاهيم وتتشتت عبر مسيرة حلزونية للمراحل جعلت من ما بعد الحداثة تتشبع بالتسامح الفكري والتنوع الثقافي في ذات الوقت يتلبسها هيمنة لثقافة كونية كإحدى نتائج التمازج الثقافي وثورة الاتصالات والعولمة.. وهنا تكمن مفارقات ما بعد الحداثة!

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved