يجبُ أن نتفقَ بدءاً على أن مفهوم الوطن في ذهنية إنسان اليوم، بحدوده، وسيادته، وحقوقه، وجنسيته، وشكله، هو مفهوم وافدٌ علينا تحديداً من الغرب، وهو بهذا الفهم المعاصر ليس نتاجاً عربياً أو إسلامياً.
فالوطن في الثقافة العربية ليس انتماء أو هوية، وإنما هو المحل الجغرافي الذي يعيش فيه الإنسان، وهو بالتالي عرضة للتغيُّر والتبدُّل، وليس ثابتاً وشرطاً من شروط الهوية، كما هو عليه الوضع في مفهوم الوطنية الحالي.
يقول ابن منظور في «لسان العرب المحيط» تحت مادة وطن: «الوَطَنُ المَنْزلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله». ويؤكد: «وَطَنَ بالمكان وأوْطَنَ أقام، الأخيرة أعلى، وأوْطَنَهُ: اتخذه وَطَناً، يقال: أوْطَنَ فلانٌ أرض كذا وكذا أي اتخذها محلاً ومسكناً يقيم فيها». أما «المواطنة» فهي كما يقول ابن منظور: «كل مَقام قام به الإنسان لأمر فهو مَوْطِنٌ له»، فقوله «لأمر» يعني احتمال أن يكون الوطن مؤقتاً، وعبارة «اتخذ وطناً» تعني بوضوح أن الوطن، بمعنى الحيز الجغرافي، هو اختيار، يتخذه الإنسانُ ذاته بمحض إرادته، وليس هوية وانتماء يجد الإنسانُ نفسه فيه دون ان يختار. وكما هو واضح فالوطن عند العرب هو مجرد «محل الإقامة» ولا يتعداه لأكثر من ذلك.
أما مفهوم «وطن» بالمعنى المعاصر، فيعني دولة ذات حدود جغرافية، وشعب: «مواطنون»، وسيادة، وهوية، وحقوق مواطنة، ومؤسسات حاكمة، وأنظمة تنظم العلاقة بين المواطنين بعضهم ببعض من جهة، وبينهم وبين المؤسسات الحاكمة من جهة ثانية، وعلاقات مع الدول الأخرى تقوم على أساس مفهوم «الدولة» ومواطنيها، والشعور بالوطنية لدى الأمم المعاصرة هو شعور انتماء وهوية، وليس مجرد إحساس عاطفي بحب المكان الذي ولدت أو تعيش فيه كما هو في الثقافة العربية. هذا التباين يعود في تقديري أيضاً إلى أن مفهوم «دولة» ككيان سياسي ظل غائباً عن الثقافة العربية.
وفي الثقافة العربية نجدُ الانتماء إلى «الأمة» سواء كانت «الأمة الإسلامية» أو «الأمة العربية» مقدماً كهوية على الانتماء على الجغرافيا. وهذا مربط الفرس الذي جعل الشعور بالوطنية كهوية وانتماء لدى العرب والمسلمين يتراجع إلى الخلف، أو يغيب تغييباً كاملاً، أمام الانتماء إلى المذهب أو الانتماء إلى العرق، وتقديم المذهب أو الانتماء الإثني، على الانتماء الوطني هو باعث من بواعث تفجير الوطن، وسبب من أسباب التشرذم والفرقة.
وقد علمنا التاريخ مراراً وتكراراً أن «الطائفية» عندما تصبح هوية تعلو على الهوية الوطنية فإن النتيجة هي الفتنة، هذا مثلاً ما كان الباعث الرئيسي للحرب الأهلية التي عصفت بلبنان طوال سبعة عشر عاماً خرج منها بدمار هائل وخسائر فادحة، ولم يربح أصحاب التعصب الطائفي منها إلا مزيداً من الدمار على المستوى الإنساني والمادي.
إنها دعوة صادقة لترسيخ مفهوم «الهوية الوطنية» بحيث يكون له الأولوية على كل الانتماءات، دون ذلك سنشغلُ أنفسنا بمعارك هامشية، وقضايا ثانوية، أما الخاسر الوحيد فهو الوطن في نهاية المطاف.
|