عرضت قناة العربية في يوم 31 يونيو برنامجاً حذرت المشاهدين قبل بدء عرضه من مشاهده العنيفة، ونادت أن لا يُسمح للأطفال القصّر بمتابعته، وذلك حفاظاً على مشاعرهم ونفسياتهم البريئة من عاقبة تأثير ما تم تصويره في أحد سجون بغداد،.. كان عرضه بعد خمسة أيام من ذكرى اليوم العالمي لمناهضة التعذيب في 26 يونيو، وكان عبارة عن مشاهد لجنود عراقيين ينهالون بالضرب المبرح على أجساد عارية لسجناء عراقيين،... كم كانت تلك المشاهد مؤلمة، فهي لم تكن تحكي قصة تعذيب سجناء عراقيين فقط، إنما تختصر تاريخاً من المعاناة للإنسان في العالم في مشاهد ، وتحكي قصة تعذيب الإنسان من أجل غايات وأهداف غير نبيلة، قد ترفع أحيانا كشعار نبيل كالحفاظ على الأمن والوطن، ولردع من تسول له نفسه تحدي حزب الدولة الأوحد، وقد استعمل ذلك الاسلوب الوحشي في أحيان أخرى تحت شعار مكافحة أمور أخرى، فيجلد المراهقون في الساحات العامة من أجل هذا الغرض.
ولم استطع تفسير مدى إيمان أولئك السجانين بما يفعلونه من وحشية وعنف دموي بضحاياهم، فقد كانوا كما بدا في الصورة مؤمنين بما يفعلونه، ومخلصين في إلحاق أشد الألم بأجسادهم..، .. فلماذا إذن لا تتحرك ضمائرهم ضد وحشية العقوبة الجسدية من أجل انتزاع اعتراف أو لقمع أفكار وصفت لهم بأنها شيطانية وخبيثة،.. هناك من حاول تفسير قناعة هؤلاء السجانين البسطاء للقيام بهذا الدور الوحشي، بأن نسبة كبيرة من الناس يفعلون حسب ما يطلب منهم فعله بغض النظر عن مضمون ذلك الفعل، ودون قيود ضميرية طالما أنهم مدركون بأن الأوامر تصدر إليهم من سلطة شرعية، وقد يعمد أحياناً بعض الذين يمارسون التعذيب الى تبرئة أنفسهم من خلال ميكانيزم ذاتية تعمل على إنكار مكانة هؤلاء الضحايا ككائنات بشرية، وتنعتهم بأقذى الصفات وأتفه الأسماء والدلالات، وذلك لتبرير أفعالهم المشينة، وايجاد العذر الكافي لعزل ألم الضمير عن واقع أفعالهم الدموية، وقد ينطبق هذا على أي جماعة، سواء كانوا أعضاء مؤسسة رسمية كما شاهدناها في البرنامج التلفزيوني على شاشة العربية، أو أي مجموعة إرهابية، تقدم لأعضائها التبريرات لتفجير أجسادهم في مجمع سكني مثلاً.
وثقافة التعذيب تمتد جذورها في عمق الصراع الإنساني السياسي وسلوك العنف لدى الأفراد وتأصله في تركيبة الثقافات الاجتماعية لشتى الحضارات، وهما بلا شك يغذيان بعضهما، ويستمدان جذورهما من محيط العائلة الصغيرة، ومن علاقة الأب بالأبناء بالتحديد،.. وما يتشكل في ذاكرتهم من سلوك عنيف وآثار نفسية للضرب الجسدي ومشاعر انتقام وعصيان وتمرد، يحدد بصورة ما معالم شخصية الفرد في المستقبل.. فالعصا كانت دوماً لمن عصى، والضرب عقاب مشروع لمن يخالف تعاليم البيت، أو من يتخلف عن أداء الواجب المدرسي،.. ولم يتوقف مفهوم العقوبة بإحداث الألم الجسدي عند هذا الحد، بل تعداه إلى الاعتقاد بأن ضرب أطراف أو جسد طفل أو طالب في مقتبل العمر أو جلد شاب في أحد الأسواق، وسيلة تربوية لتهذيب سلوكه أو ردع مظاهر التمرد والعنف والخطيئة لديه.
ومفهوم التعذيب يتجاوز أحاسيس الألم الجسدي، ويقصد به أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أو نفسياً، يلحق عمداً بشخص ما لغرض الحصول منه على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه او يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص آخر، أو لتخويفه أو إرغامه على الاعتراف بشيء ينكر، كما تشكل أفعال العنف الموجه الى المرأة ضرباً من ضروب التعذيب عندما تتسم في طبيعتها وقسوتها بما ينطوي عليه مفهوم التعذيب، وتتراوح الانتهاكات المتنوعة التي يتعرض لها الأطفال في الأسرة والمجتمع من المعاملة السيئة في المدرسة إلى التعرض للإساءات في البيت، ومن تسخير الأطفال قسراً لأداء أعمال تسول أو تجارية ومهنية في سن الطفولة المبكرة، وتُعد بعض هذه الانتهاكات تعذيباً أو معاملة سيئة.
وتتعدد أساليب التعذيب وتتنوع، فقد يتعرض مجتمع بأكمله لأقسى أنواع التعذيب، وما يحدث في فلسطين مثال على العقاب الجماعي لدفع السكان الأصليين إلى الرحيل عن الأرض، ولكن ما حدث في الهند في القرن الثامن عشر اختلفت أغراضه، فالمجتمع تلقى أقسى أنواع التعذيب وذلك لإرغامه على العمل لجمع المال الكافي للضريبة، وهذا ما كان يفعله أحد جلادي هايستنغز حاكم الهند البريطاني في سنة 1788م، كان هندياً اسمه «ديفي سينغ».. مكلفاً بجمع الضرائب من الناس، وكان يعاقب الأشخاص الذين لا يتمكنون من جمع المال الكافي لدفع الضرائب للحكومة بقسوة ووحشية، فكانت تربط أصابعهم بالحبال بشدة حتى يتشقق لحم أيديهم ثم يتم حشو الفراغ بين الأصابع بمواد حديدية وخشبية، ويربطون معاً بأقدامهم ويضربون بالسياط على أقدامهم حتى تتساقط أظافر تلك الأقدام تلقائياً.. ورؤوسهم حتى ينزف الدم من أفواههم وأنوفهم وآذانهم.
وفي سنة 1987، يصف شاب بورمي قصة تعذيبه لهدف آخر وهو الحصول على معلومات منه كالتالي: «جاء إلينا فريق من ضباط الشرطة وجردونا من كل ثيابنا، ثم ربطوا أيدينا بالأغلال ثم علقونا في سقف الغرفة بواسطة حبل.. ثم بدأ التحقيق معي واستجوابي بالأسئلة ذاتها مراراً وتكراراً حتى أصبحت أعطي الجواب نفسه في كل مرة، ثم بدأ ضباط الشرطة يضربونني بحزام جلدي، وكان عدد تلك الضربات يتراوح ما بين 70 الى 80 جلدة افقدتني الوعي كلياً بعدها.. وبعد ذلك انزلوني الى الارض ورشوا الملح على جراح جسدي ثم بدؤوا يبولون علي».
وما شاهدناه في الفيلم العراقي المرعب، كان خليطاً مختلفاً من الأغراض التي انفردت بها العقلية العربية السياسية، فالضرب والتعذيب الجسدي المروع، ربما كان لغرض الانتقام من موقف سياسي مخالف للحزب الحاكم، او لهدف ترويع اولئك الطامحين لمكانة على اريكة المجد بمفاهيمها العربية، والعقل السياسي العربي لا يتضمن على صفحات دستوره فصلاً لفك النزاع او لتنظيم الاختلاف، فإن حدث.. فهو خلاف لا يحتمل وعداء غير مسبوق، ولعل شدة ذلك الضرب الوحشي لأجساد اولئك الضحايا، وسيلان الدم من جروحهم النازفة، تدفعه رغبة مجنونة لمحاولة نزع جذور ذلك الاختلاف من الشرايين، واخراجه دماً فاسداً، فالعرب حتى وقت قريب كانوا يؤمنون بصورة عمياء بأن الاختلاف نبتة شيطانية تهدد التناغم والتناسق الفكري في المجتمع، وتهيئ لواقع الشقاق والفتن، وان التعدد وتنوع المصادر والمفاهيم الحضارية يمثل الزيف والتقليد النقيض للأصالة والنقاء، ولسبب ما.. تجاوز ايمانهم المجرد بعقيدة التوحيد الحقيقة الإلهية السامية، الى تطبيقات ثقافية سياسية واجتماعية، همها المقدس توحيد الفكر والثقافة والرأي السياسي والزي التقليدي والعرق والأصالة، ثم طبعها بماركة مسجلة عربية محصنة ضد عبث التقليد وزيف التطوير، ولم يشكك في أصالتها منذ قرون وقرون إلا تتابع غزوات العولمة وحكم رأس المال، فقوافل التجارة عادت من جديد من خلال نوافذ حرية التجارة، والمصلحة السياسية تبدلت مفاهيمها الأحادية، وأصبحت تؤمن أكثر بضرورةتعدد الأدوار وتنوع الثقافات، وتنبذ فرض أحادية التناغم القسري في المجتمع العربي، وأصبح التنوع مطلباً رأسمالياً، والتسامح وسيلة تسويقية، والاختلاف منهجاً فكرياً، وان الناس لابد لهم ان يمتطوا قافلة التغيير، وان يتعلموا كيف يكسبون المال والاستقرار من خلال العمل اليومي الجاد، والمطالبة بحقوقهم الوطنية، فموروث الإيمان بالفكرة الأصيلة الواحدة والنقية من الشوائب او قذى الاختلاف فقدت قدرتها السحرية للسيطرة الاقتصادية في العصر الحديث، وصارت المطلوب الأول حياً أم ميتاً في النظام العالمي الجديد للشركات العملاقة الحاكمة، بعد ان كانت لقرون: الجلاد.. «ديفي سنيغ»..!
|