شهدت عقود السبعينيات والثمانينيات وبداية التسعينيات تطورات كبيرة في إطار إعادة بناء وهيكلة بعض المفاهيم الأساسية في إدارة النظام السياسي والاقتصادي في العالم، فقد بدأ التحول نحو الديموقراطية والاقتصاد الحر منذ منتصف السبعينيات في البرتغال واسبانيا واليونان، إلا انها اتسعت خلال الثمانينيات والتسعينيات لتشكل امريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا. وخلال عشرين عاما «1974 - 1994م» كما رصد ذلك الدكتور سعد الدين ابراهيم تحولت ستون دولة من أنظمة شمولية او دكتاتورية الى انظمة ديموقراطية. وفي إطار عملية التغيير هذه تحولت ملكيات كثير من الشؤون العامة وقطاعات الدولة الى إدارات وملكيات لمؤسسات وشركات خاصة. ولا شك ان مثل هذه الظروف قد حفزت الشركات الدولية العملاقة الى مزيد من دخولها الى الاسواق المحلية والمشاركة في صنع قرارات مهمة على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والإعلامي في الدولة.
وعلى هذا النحو والتحولات النوعية في هيكلة المجتمعات، شهدت وسائل الإعلام تحولات أخرى نوعية في بناءاتها الايديولوجية وأشكالها التنظيمية، ومن أهم هذه التحولات عمليات التسريع في استيعاب مفاهيم الاحترافية الإعلامية professionalism لتصبح قاعدة بديلة لمفاهيم الصحافة والإعلام الحزبي الذي سيطر على وسائل الإعلام منذ بداياتها الأولى. وعلى الرغم من توسع وسائل الإعلام وادعاءاتها بالالتزام باحترافية إلا أن كثيراً من الدراسات اشارت الى غير ذلك. وفي حدود معينة الى خطوط موازية للسلطة والأحزاب السياسية المسيطرة في المجتمعات. وهذا ما عبر عنه سيمور يور بمفهوم التوازي الحزبي Press-party Parallelism حيث تظل الصحافة ووسائل الإعلام في بيئة ومناخ ملتزم بالايديولوجيا والتنظيم الحزبي في المجتمع.
كما اشارت دراسات مقارنة بين فاعلية الدور الذي يؤديه القائمون على الصحافة الى اختلاف في المفاهيم والأهداف التي تسعى الصحافة الى تحقيقها، فمثلاً دراسة مقارنة بين بريطانيا والمانيا، أوضحت وجود اختلافات بين المفاهيم الإعلامية في المجتمعين الانجليزي والألماني.. فبينما يرى الصحافيون الانجليز ان دور الصحافة مقرون بمبدأ الموضوعية والحيادية والاحترافية الإعلامية، يرى الصحافيون الألمان انهم انفسهم عناصر فاعلة وممثلون متحركون في الحياة السياسية والاجتماعية.
وربما يكمن الفارق الأساسي بين الدور الذي تقوم به الصحافة الانجلو امريكية والصحافة الأوروبية في كلب المراقبة الذي يتجسد في المفهوم الانجلوامريكي ودور الارساليات التبشيرية الذي تؤديه الصحافة الأوروبية عامة وغيرها من نماذج الصحافة في الدول النامية.
وأشارت دراسات أخرى عن اتجاهات الإعلاميين في المانيا وبريطانيا وايطاليا والسويد والولايات المتحدة نحو المجتمع الديموقراطي الى وجود اختلاف واضح بين مفاهيم القارة الأوروبية والمفاهيم الانجلو امريكية. وبينت هذه الدراسات ان هناك اتفاقا الى وجود انحيازات حزبية واتجاهات ذاتية للإعلاميين على الرغم من الإنكار الذي عادة ما يدعيه هؤلاء الإعلاميون والصحافيون. ويمكن اجمالاً التأكيد على ان المفاهيم الانجلو أمريكية تعزز فكرة ان تعمل وسائل الإعلام على ان تكون ناقلا امينا لمجمل الاخبار والقضايا بين جماعات ومجموعات الضغط وبين عامة الجمهور، بينما تعمل الصحافة وفق مفاهيم القارة الأوروبية على التحقق من القضايا التي تطرحها المجموعات الاجتماعية ومجموعات المصالح والبحث عن الحقائق الدفينة خلف المشهد السياسي. وفي دراسة عن المدى الذي قد يصل له الإعلاميون في التحقق من بعض الموضوعات الاجتماعية، بينت الدراسة ان نسبة الإعلاميين في بريطانيا الذين يمكن لهم ان يعلنوا عبر صحفهم ووسائل إعلامهم ومقالاتهم عن احتجاجهم او اعتراضهم على أي من الأحزاب السياسية المتطرفة في مجتمعهم تصل الى نسبة 53%، بينما تزيد هذه النسبة الى حوالي 90% مع الصحافيين والإعلاميين الألمان، مما يوضح درجة وهامش المساحة التي يحتلها الإعلاميون الألمان من خلال قدرتهم على النقد في كل الاتجاهات المجتمعية ولكن بنسبة أقل في المجتمع البريطاني. وهذا يتضح اكثر في دراسة أخرى اشارت الى علاقة قوية للصحافيين الامريكان والإنجليز نحو نظام التقرير الموضوعي للأحداث، مقابل علاقة اضعف من قبل الصحافيين الألمان والإيطاليين.
وتظل الصحافة في الدول الاسكندنافية ذات ارتباط بالأحزاب السياسية القائمة في تلك الدول على الرغم من التحول التدريجي نحو الاحترافية التي تبني لها قاعدة انفكاك عن الولاءات الحزبية المعتادة، كما هي الحال مثلاً في السويد. وأشارت دراسة عن الإعلاميين في هونج كونج، في هذا الخصوص الى ان محاولات وسائل الإعلام المختلفة بتياراتها السياسية المتنوعة انصبت في إطار التأكيد على أهمية الاحترافية كمعيار موضوعي للعمل الإعلامي بعيدا عن التجاذبات السياسية لوسائل الإعلام، ولكن تظل هناك ظلال سياسية تغلف التوجهات السياسية للصحف ووسائل الإعلام وتحدد مضامينها الايديولوجية.
ولا شك ان القائمين على الإعلام في الدول النامية يتأثرون بما تفرضه أجندة الوسائل الإعلامية الدولية، مما يترك أثره على الممارسات والسلوكيات الإعلامية، حيث ان مفاهيم الاحترافية والمهنية الإعلامية في وسائل الإعلام للدول النامية لم تكن محلية في نشأتها بل هي مجموعة أفكار وممارسات تم استيرادها من الخارج، وتحديداً من المفاهيم والتطبيقات الإعلامية للثقافة الانجلوأمريكية.
يتبع..
( * ) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود - الرياض
|