Friday 4th july,2003 11236العدد الجمعة 4 ,جمادى الاولى 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصة قصيرة قصة قصيرة
عالم القشور والدماء
زينب علي البحراني / الدمام

أخيراً ها قد هبط الليل الحنون بأنفاسه الأثيرية، كقصة خرساء تعبق برائحة الشرود والخرافة وتترنم أعماقها بأناشيد الغموض الممزوجة بصرخات شظايا القلوب، ها أنا ذي أدخل حجرتي وأخلع عينيّ المفقوءتين وأذنيّ المقطوعتين وشرايين حنجرتي المهترئة على فراشي ثم أدثرها بهدوء وحرص ككل ليلة.
روحي ترتعش فرحا.. فحريتي تستيقظ .. سأخرج أخيرا واستحيل ذرة كونية تسبح في بحر المجرة، وبعد ان تخلصت من بقايا جسدي المثقل بقشور الماديات ورذاذ الشر صار باستطاعتي التحليق والخروج عبر قضبان نافذة حجرتي.. شق صغير في الجدار.. أو حتى ثقب المفتاح بلا ضجة.
العالم بحيرة نجوم بنفسجية، وأنا سعيدة بتسكع روحي كنغم شارد في مدينة الأحلام العذبة، وأنا أنا.. بكل حقيقتي الشفافة وطفولة نفسي، وقد بصقت ذاتي الممزقة وفارقتني أقنعتي النهارية المهترئة، مصحوبة بسرابيل الكذب الصدئة واسمال النفاق المرقعة، وانطلقت هاربة من عالم الغبار والدمار حيث لا تشرق الشمس أبدا، ولا يتساقط المطر الا اسود مسموماً.. حيث الخبث المعتق والعفن الروحي الأزرق وتماثيل الملح والشمع والجليد المكسوة بالجثث المتفسخة.
رباه كم أبدو بريئة وشفافة كقطرة مطر عذبة، لا أدري من أنا وكيف اتيت إلى عالم غفلت عنه سهوا تلك المؤامرات الخبيثة التي تحكيها الأحزان باصرار عنيد لاعتقال الفرح، أبحث عن شيء ما لا أذكره، دميت قدماي في مسيري للبحث عنه لمدة ألف عام من الألم ومازلت أبحث عنه بين سحب ضياعي وخيبتي وشرودي ومضغي لأوجاعي التي لا تتقن فن النسيان.. ولم أجده.. وربما لن أجده أبدا.
الرياح تلفني بعباءتها القارصة البرودة، ذراعي مكسورة ووجهي بلا ملامح، تائهة بلا طريق، وما الجدوى من ان أجد طريقي أو اسمي أو عنواني، لاشيء يعنيني وأنا في كون ممزق تعانقه الأحزان.
على البعد.. اسمع صوت قطيع الشياه، طابور طويل من الشياه البلهاء المستكينة يتبع بعضه بعضا بلا بداية ولا نهاية.. لايزال يدعوني لأتبعه بعينين معصوبتين ليجرفني الطوفان المسموم فأغرق وعلى شفتي شبح ابتسامة غبية تبعث على الغثيان.
أركض.. أركض.. لا أدري إلى أين، أعانق شجرة يابسة مقطوعة الأغصان وأبكي بحرقة ثم أنهار مرهقة على الأعشاب المحترقة.
وجوه بريئة حنونة لا أعرفها تحيط بي.. أصوات عذبة رقيقة تدعوني للحاق بها إلى عالم سحري مجهول حيث تبتسم الأبدية.. تقول لي بحنان:
تعالي.. تعالي، لن تندمي، تعالي معنا.. لا، لا أريد، أمي ستفقدني..
تعالي، جميع أهل العالم الذي تعيشين فيه ينسون الذين يرحلون عنهم بسهولة.. تعالي.. وجه يطفح بالبراءة والصدق يترنم بصوت كانغام قيثارة شجية بقوله: «دعوها.. لا ترهقوها.. عندما تتعب وتشتاق القدوم ستأتي بنفسها».. وتبتعد الوجوه البريئة عني، أشعر ألماً يعتصر قلبي، والأغلال تدمي أطرافي فأصرخ بدموع متحجرة يائسة: تعالوا أيها الأصدقاء.. ساعدوني، سآتي معكم، لا تتركوني وحدي.. يرجعون مسرعين لمساعدتي فأندهش، في العالم النهاري الذي أتيت منه لا أحد يساعد أحداً، انهم يدوسون على رقاب الجرحى.
الأرواح الحنونة تجاهد لمساعدتي، لكن ضوء النهار يتسلل، وبراثن مجهولة المصدر تنغرز في عظامي وتشدني بقسوة لعالم القشور والدماء.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved