لم تترك عاطفة الابوة الآباء والامهات هذه الايام يستمتعون بالاكل والمنام شفقة على ابنائهم وبناتهم في الصف الثالث الثانوي والمقبلين على المرحلة الجامعية. ومن يلومهم، والحياة اصبحت اصعب، وفرص القبول في الجامعات اقل، واقل منها فرص العمل الوظيفي. ومع اشتراك جميع الآباء والامهات في هذه العاطفة الا ان تعبيرهم عنها في مرحلة الدراسة يختلف عنه في مرحلة الامتحانات، ويختلف عنه ايضا في مرحلة التقديم للجامعات واختيار التخصص. ومن فرط هذه العاطفة يلزم بعض الآباء ابناءهم بتخصصات تستهوي الآباء ويرون فيها المستقبل المشرق، مع ان الابن ليس بالضرورة ميالا الى ذلك التخصص، بل احيانا يكرهه كرها شديدا، فيقع الطالب في حيرة بين اختيار ما يحب هو ويهوى وما يريده الاب او الام او المجتمع.
ان مما يتفق عليه الجميع ان الانسان يبدع وينتج في المكان والبيئة والتخصص الذي يناسبه ويميل اليه، وكثيرا ما يفشل الانسان اذا ألزم بتخصص او نشاط لا يحبه ولو كان متفوقا دراسيا ومتميزا عقليا. والذي شاهدناه في بعض طلاب الجامعة عدم ارتياحهم الشديد لتخصصاتهم التي يدرسونها، بل وفشلهم في بعض السنوات بسبب ان هذا التخصص ليس هو الرغبة الحقيقية للطالب انما كان اختياره لهذا التخصص تحت ضغط اجتماعي قلما يسلم منه ابناؤه اليوم، وهؤلاء يقضي احدهم معظم يومه يتخيل نفسه في الكلية التي يحبها هربا مما هو فيه. في حديث مع احد الحاصلين على درجة علمية عالية اخبرني انه منذ صغره وهو يتمنى ان يكون جراحا، وبسبب ظروف عائلية لم يتمكن من دراسة الطب، ثم استدرك قائلا: لكنني ألزمت ابني بأن يدرس الطب، وسوف الزمه اذا تخرج ان يكون جراحا كي احقق امنيتي. اقول: عزائي لذلك الطالب ان لم تكن تلك رغبته، وليس ببعيد ان يختار له والده التخصص الدقيق في الجراحة ونوعية العمليات التي يجريها. كما ما زلت اذكر قصة ذلك الطالب الذي سأل بالله اعضاء المقابلة الشخصية ان يرسبوه فيها لانه لا يحب هذه الكلية لكن والده ألزمه بها ولا شيء يقنع والده الا رفض الجامعة لقبول ابنه. ولحظة كتابة هذه الكلمات اخبرتني احدى قريباتي عن معاناة احدى طالباتها المتفوقة في القسم العلمي التي يصر جميع اهلها «بما فيهم الجدة» على دخولها الطب ولم يقبلوا منها العذر بأنها لا تحب دراسة الطب. بل نالها من الاهانة الكثير لما اخبرتهم بأن منيتها الحقيقية ان تتخصص في علوم اللغة العربية.. قد يقول البعض لهذه الطالبة ولماذا درست في القسم العلمي اذا؟ واجيب عنها اذا لم يستطع المتخرج من الثالث ثانوي ان يبوح برغبته التي تخالف رغبة من حوله فهل يستطيع ذلك طالب الاولى ثانوي؟ هذا اولا، وثانيا: اذا كنت اكتشفت هذه الرغبة وتأكدت وتبلورت وتأصلت في الثالث ثانوي علمي ايكون حراما على تحقيقها لا لشيء الا لأنني درست في القسم العلمي.
الحقيقة المؤلمة هي ان مجتمعنا - وللاسف - لا يسمح للطلاب المتفوقين ان يختاروا تخصصات عادية، وكأن ضريبة التفوق هو دراسة تخصصات معينة سواء احبها المتفوق ام لم يحبها ونسي البعض ان اي تخصص مهما كان «حتى المهن الحرفية» المبدعون فيه هم الذين اختاروه بناء على رغباتهم وميولهم، وان من المحزن ان يتحسر الانسان بعد تخرجه من الجامعة بسبب تخصصه او طبيعة عمله التي فرضها عليه المجتمع وكان بامكانه ان يختار ماهو انسب له. ادرك جيدا سعي الجميع لتحقيق الامان الوظيفي والمادي كأولوية اولى، لكنني اعتقد انه بالامكان تحقيق ذلك في كثير من الاحيان بدون المصادمة مع ميول الطالب وقدراته.. ومن قال ان الامان الوظيفي يتحقق لطالب لا يحب الطب «مثلا» لكن دفعته الاسرة لذلك «فهو سيكون اول طبيب في العائلة» فيقضي في الكلية ضعف المدة المقررة للدراسة ثم يفصل من الجامعة فلا ارضا قطع ولا ظهرا ابقى؟ وامثال هؤلاء في جامعاتنا وكلياتنا ليس بالقليل، بل هو يفسر الى حد ما ضعف الاداء الوظيفي الذي نراه اليوم سائدا لان الموظف لا يستمتع ولا يهوى العمل الذي يؤديه. كما ادرك جيدا ان مستوى تفكير طالب الثانوية وتقويمه لنفسه وللخيارات المتاحة ليس بالعمق والبعد اللذين هما عند الآباء، لكن ذلك لا يبرر مطلقا ان يفرض الآباء آراءهم على الابناء، فالذي سيدرس هم الابناء وليس الآباء بل يجب ان يكون دور الآباء توجيهيا مساعدا ومحفزا للابناء لا ملزما لهم.
(*) استاذ مشارك - كلية الطب جامعة الملك سعود
|