إن المتأمل في الخطاب الفكري الذي صاحب تفجيرات الرياض الأخيرة، منذ وقوعها وإلى يومنا هذا يتبين بجلاء وجود ثغرات واضحة وخلل منهجي في قراءة هذا الحدث بالشكل الصحيح، وبالتالي فلن تسهم معظم هذه القراءات في معالجة الحدث فنحن أشبه بمن يدور في حلقة مفرغة، أو بمن يسير في طريق لا تُعلم نهايته!!!.
إن المعالجة المنهجية الموضوعية لهذا الحدث أو ذاك يجب أن تنطلق من منطلقات مستمدة من تعاليمنا الإسلامية السمحة، ولذا فإنه يجب على من يريد المساهمة في معالجة هذا الحدث، أو هذه الظاهرة، أو هذا الفكر، أن يضع بين عينيه هذه المنطلقات وهذه المبادئ السامية والمتمثلة في الإخلاص لله سبحانه وتعالى وإرادة وجهه سبحانه، والصدق والوضوح والشفافية، والتجرد من الأهواء والانتماءات الفكرية والإيديولوجية ووضع المصلحة الدينية والوطنية فوق أي مصالح أخرى حتى تؤتي هذه الجهود ثمارها وتؤتي أكلها، وتكون لبنة في المسار الصحيح ولتسهم مساهمة فاعلة في معالجة ما يعتور الأمة من مشاكل وأزمات تعصف بها في رحلتها في هذه الحياة.
ولذا فسوف أقف هنا عدة وقفات مع هذا الخطاب (خطاب الأزمات) لاستعراض عدد من المحاور التي آمل أن تسهم في رسم خارطة لطريق الإصلاح ومعالجة الأخطاء:
أولاً: نقد ومعالجة فكر الغلو معالجة موضوعية قائمة على النقد المنهجي الذي يقابل الدليل بالدليل والحجة بالحجة والفكر بالفكر، لكي تضيق دائرته ويعزل في زاوية ضيقة ولا يكون له أثر سلبي على شبابنا، وهذا يتطلب صدقاً ووضوحاً وتجرداً بكل ما تعنيه هذه المصطلحات من معنى، وهنا يأتي دور العلماء والمفكرين ليقطع الطريق على تلك الأفكار من أن تصل إلى عقول شبابنا، ومن ثم يتعاطفون معها ويؤمنون بها وفي النهاية يجاهدون من أجلها؟!!.
إن دور العلماء في هذه القضية دور محوري وفعَّال ذلك أنهم المبلغون عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الناس بشريعة الله وأحكامها وأقدر الناس على الرد على تلك الدعاوى الباطلة والآراء الشاذة التي تتبنى ذلك الفكر الغالي.
إن هناك تقصيراً واضحاً من قبل العلماء والدعاة في معالجة هذا الفكر معالجة منهجية موضوعية إننا نؤمن إيماناً تاماً بأن هؤلاء العلماء قد وعوا الموقف وملابساته وأحواله، ولكننا نؤمن أيضاً بأنهم قد قصروا في لغة الموقف التي يتطلبها الحدث التي تتطلب تفنيداً من العلماء لأدلة هؤلاء التي يعتمدونها ويستشهدون بها في تبني هذا المسلك الخطير، فهم وللأسف الشديد يوظفون الأدلة الشرعية في غير سياقها الصحيح، ومن ثم يؤثرون على قطاع كبير من الشباب الذين يدينون الله بهذه الافكار والمنطلقات وهنا يأتي دور العلماء لكشف الأوراق ووضع النقاط على الحروف في حكم الإسلام في تلك الاستدلالات والاستشهادات التي يبني عليها هؤلاء أحكامهم.
إننا لم نر بشكل واضح مناقشة لتلك الأدلة والآراء التي ينطلقون منها للقيام بمثل هذه الأعمال؟!!
- أين الحديث عن مفهوم دار الحرب ودار الإسلام التي يبنى عليها كثير من الأحكام عند هؤلاء؟
- أين الحديث عن مفهوم كثير من الأدلة الشرعية من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يوظفها هؤلاء في شرعنة ما يقومون به من أعمال كحديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» وحديث «يغزو جيش الكعبة .. فيخسف بهم .. ثم يبعثون على نياتهم» وغير ذلك من الأحاديث الشريفة التي وظفت في غير مرادها الصحيح فشوهوا بذلك سماحة الإسلام ويسره ووسطيته وشمولية تعاليمه؟.
- أين الحديث عن أحكام المعاهدين في الإسلام وعدم جواز التعرض لهم أو إيذائهم؟
- أين الحديث عن نماذج سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في معاملة اليهود والنصارى داخل جزيرة العرب أو خارجها كمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لنصارى نجران ومعاملة عمر رضي الله عنه لنصارى بيت المقدس؟.
إن الحديث عن هذه القضايا وعن هذه الأدلة والأحكام الإسلامية ومناقشتها واستلهام العبر والدروس منها يوضح الرؤية ويزيل الغبش الذي يغطي عيون كثير من الشباب المتحمس ويزيل الإشكالات التي يعاني منها هؤلاء الشباب ويحدد في النهاية المسار الذي يجب أن نسير عليه لنكون لبنة صالحة في بناء هذا المجتمع، وحتى لا يعطي فرصة لمن يريد أن يخرق سفينة المجتمع، لأننا لو تركناهم وما يريدون لهلكنا جميعاً ولو أخذنا على أيديهم لنجونا جميعاً.
ثانياً: ماهية وحقيقة خطابنا الفكري والدعوي: إن الناظر في خطابنا الفكري والدعوي يتبين له تركيز هذا الخطاب على التنظير وعلى اللغة الخطابية على حساب التطبيق والبرامج العملية، كما يركز على تناول العموميات المطلقة والمسلمات المتفق عليها ويهمل الحديث عن سبر أغوار المشكلة والغوص في أعماق القضايا ومناقشتها وتجليتها من جميع جوانبها، وهذا أدى بنا في النهاية إلى أن نكون قوالب مقولبة وأوعية معبأة وأدمغة ملقنة وذلك لحضور ثقافة الأجوبة وغياب ثقافة الأسئلة، ولذا أصبحنا نفكر بتفكير غيرنا فسهل اختراقنا والتأثير علينا.
إن الواقع الثقافي والفكري والدعوي في هذا المجتمع بحاجة ماسة إلى معاهد للدراسات ومراكز للبحوث لكي نستطيع من خلالها مناقشة قضايانا ومعالجة مشاكلنا من جميع جوانبها المختلفة والبحث عن اسبابها وتبعاتها وتأثيراتها لتؤتي الجهود ثمارها ولتتكامل هذه المشاريع وهذه الدراسات في بلورة واقع ثقافي وفكري يكون على مستوى التحديات المعاصرة التي نواجهها.
ثالثاً: الممارسات النقدية في هذا الخطاب تجنح كثيراً عن النقد العلمي والمنهجي الذي يعالج القضايا والأحوال والظواهر إلى النيل من الأشخاص والأعلام والتقليل من شأنهم ليتحول النقد إلى نوع من الهجائيات المقيتة التي لا تسهم بحال في حل مشكلة أو معالجة خطأ أو رأب صدع، وإنما هي لا تعدو أن تكون تأجيجاً لعداوات أو تصفية لحسابات أو استجابة لنزعات نفسية أو شيطانية؟!! وهي في النهاية تزيد فصلا إلى قاموس الهجاءالعربي.
إن النقد المنهجي الذي نريد هو ذلك النقدالذي يبني ولا يهدم، يصحح ولا يخطئ يقوم ولا يتهجم يداوي ولا يقتل، يلاحظ ولا يهجو!!!.
رابعاً: مشكلتنا أننا نعاني من فراغ في إدارة الأزمات وفراغ في الإرادة: إن كثيراً من مشاكلنا التي تحاصرنا وتضيق الخناق علينا فلا نستطيع أن ننتج أو أن نكون فاعلين ومؤثرين في مسيرتنا العلمية والعملية الخاصة والعامة، هي في الحقيقة لكوننا نعاني من فراغ في الإدارة، وهذا الفراغ نجده متحققاً في عدم قدرتنا على إدارة أنفسنا فيما نأتي ونذر من أعمال وأقوال وفي إدارة بيوتنا وأهلينا، وذلك بالمحافظة عليهم وتوجيههم التوجيه الصحيح الذي لا يتصادم مع قيم المجتمع وثوابته الدينية والوطنية، وفي إدارة زملائنا وطلابنا في أساليب الطرح والمناقشة والأخذ والعطاء والمشاركة الفاعلة، الفراغ في الإدارة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
إننا لو استطعنا أن نملأ هذا الفراغ لحصل بذلك نفع كبير ولحلت كثير من مشاكلنا التي نعاني منها.
كذلك فإن فراغ الإرادة له نصيب في تكريس هذه المشاكل وهذه الأخطاء التي يعج بها المجتمع، فإذا نظرت إلى واقعنا الاجتماعي، فإنك ستجد كثيراً من شبابنا يعاني من فراغ في الإرادة فتجده ضعيف الهمة والعزم قليل الإرادة لا يستطيع تحمل أية مسؤولية أو الاضطلاع بأي أمر من الأمور الجادة النافعة، تراه يركن إلى الراحة والدعة يلقي بالتبعات على الآخرين ونظرة واحدة في قاعات الدراسة في مدارسنا العامة وحتى الجامعات تعكس لنا هذه الصورة بكل خيوطها وظلالها؟!!
خامساً: وأخيراً يجب علينا أن نستشعر مسؤوليتنا الدينية والوطنية في منطلقاتنا وفي كتاباتنا فلو فعلنا ذلك وتجردنا من أهوائنا ونزعاتنا الشخصية لحلت كثير من مشاكلنا ولعشنا في سلام ووئام مع أنفسنا، ومع من حولنا، ذلك أن المسؤولية الدينية توجب علينا الصدق والخوف من الله وإرادة وجهه سبحانه والدار والآخرة، والعدل والإنصاف في أقوالنا وأفعالنا، ولن يتحقق ذلك إلا بتطبيق الإسلام عقيدة وشريعة ومنهجاً.
ومسؤوليتنا الوطنية توجب علينا أن نكون يداً واحدة وأن نقف صفاً واحداً أمام كل من يحاول العبث بأمن وسلامة هذا المجتمع، كما توجب علينا أن نكون ناصحين لأنفسنا وأهلنا وعشيرتنا وولاة أمرنا بالكلمة الصادقة وبالأسلوب الهادئ المتزن، ذلك أن الأمن في الأوطان خيار استراتيجي لا غنى لأحد عنه، وقيمة اجتماعية يجب المحافظة عليها بكل ما أوتينا من قوة، فلا يعرف قيمة الصحة إلا من جلس على سرير المرض ولا يعرف قيمة الأمن إلا من فقده وانتزع منه.
نسأل الله تعالى أن يؤمننا في أوطاننا وأن يصلح أمتنا وولاة أمورنا.
والله من وراء القصد.
|