من المعروف أن التربية كالكائن الحي ينمو ويتطور ويؤثر بقدر ما يتأثر والتعليم حسب رأي رجال الفكر التربوي جزء من التربية يستمد مادته وتُبنى أهدافه من المجتمع المحيط به.
فالتعليم المعاصر يفترض ان يكون جزءاً من إفراز بيئته وعصره الراهن يستقي منه خصائص الصناعات الثقافية - التي تتناهى في صناعاتها وتفوقها - ليوظفها في أساليب العرض وبناء المعلومة، كما يستثمر زخ المعلومات المتتابعة التي تقدمها قنوات المعرفة المتجددة والمتعددة والمتنافسة. ليوظفها في بناء مادته المقدَّمة للمتعلمين على شكل مناهج كما يفترض في غاية التعليم وتحديد مخرجاته ان يكون فاعلاً في تأهيل المتعلم ليحقق متطلبات المجتمع بعد التخرج.
تلك من المسلَّمات التي يؤمن بها كل متخصص في ميدان التربية والتعليم.
لكن هناك تفاوتاً حاداً وتباعداً جلياً لكل موازنة بين مستوى التعليم الرسمي ومراكز خدمة المعلومة الأخرى وأسلوب بنائها واستثمارها يحسب التفوق فيهما لصالح الأخير ليس في قطر معين بل على مستوى عالمي، حتى وجدنا العبارة الخطيرة التي أطلقها تقرير عن التعليم الأمريكي قبل أكثر من عقدين تقول (لو قامت قوة معادية بفرض أداء نظام تعليمي قليل الجودة على الشعب الأمريكي لاعتبر ذلك مدعاة حرب ولكن ذلك يحدث الآن من خلالنا نحن الذين سمحنا به).
والسؤال: كيف هي حال التعليم في أرضنا؟
مع مجيء معالي الدكتور محمد الرشيد لوزارة التربية والتعليم في فترته الأولى كانت الساحة حبلى بالمتغيرات التي هبت على المنطقة وتطلبت نمطا من التعليم يتواءم وطبيعة المرحلة واحتياجاتها، وكانت المشكلة التي أفرزتها تلك الفترة أنها لا تتقبل التأجيل أو الترقيع أو القناعة بالحلول الجزئية والشكلية بل لا بد من الإلمام بمعالم كامل الصورة.
فقد كان تيار التغيير والتجديد يهب من داخل وخارج المنطقة بصور تبعث على الإحراج فهل كانت آليات التخطيط وإمكانات التجديد ومتطلبات البناء المرغوب يمكن توافرها.
لاشك ان هناك معوقات جمة كانت تحول دون الإحاطة بمعالم الصورة المرغوبة آنذاك منها حجم الإمكانات المهيأة ونظرة المجتمع المستفيد من مخرجات التعليم لعملية تطوير التعليم، وتصنيف التعليم على أنه من الرواسخ التي لاتقبل التغيير، وحجم الكوادر المتوفرة في ميدان التخطيط وأمور عديدة يصعب حصرها في هذا المقال.
جاء معالي الوزير من ميدان التنظير بحماس الخبير التعليمي المتمكِّن، يحمل هماً ومشاريع ناضجة تتطلع للتطبيق، فبدأ جهده بالتركيز على أهمية المفاهيم والدلالات وكانت البداية التوجه للمجتمع التربوي والتعليمي بترسيخ الاعتزاز بالمهنة مع جرعات غرس الثقة بالميدان وتثبيت الشعارات التربوية التي تصنع الأهداف وإعادة مطبوعة المعرفة لتشكِّل منهلا لتحقيق التواصل ومنفذا للاطلاع على الفكر التربوي.
وجاءت المرحلة الثانية التي لا تقل أهمية بل هي المنطلق الجوهري لإعادة بناء التعليم وفق طبيعة العصر وحاجة الأمة، حيث كانت حالة التوازن بين معالم الصورة القائمة ونماذج التطوير، ففتحت النوافذ لتيارات التجديد من خلال رصد تجارب الغير وتبني رؤية الخبراء المدركين لحاجة الإصلاح، وأذن للمقترحات والأفكار البناءة في ولوج محيط التجارب، كانت تلك الحالة مبعث شك وخوف من النتائج لدى البعض.
ولخوفهم مايبرره، فمصدر هذا القلق طبيعة العصر بما يحمله من تهديدات فرضتها تجربة قنوات ومناهل المعرفة المفتوحة وطبيعة العصر وما يكتنفه من أحداث هددت بعض المصالح والرواسخ التي لا يقبل فيها التنازل، والانفتاح غير المحكوم من قِبل الوزارة لاستقبال تلك الرؤى.
كان قدر الوزارة ان تتصارع مع تلك الأمواج المتلاطمة لتصل إلى شاطئ الأمان المنشود في التخطيط، وكانت الآلية الاستعانة بتوظيف كوادر نحسب أنها من خيرة الرجال، نماذج مخلصة ملتزمة بقيم الأمة والرواسخ متفانية في العطاء. وجاءت الرؤى والمقترحات على شكل مشاريع متتابعة دفعت للميدان جملة واحدة بدرجات متفاوتة من القوة والضعف والأهمية، وضع بعضها تحت الملاحظة.
والغالبية منها دخل مرحلة الاعتماد والتطبيق لقوة أنصارها أو لملامح أهميتها، كان منها الجيد الذي غيَّر بعض معالم الصورة ونقل الحالة إلى مستويات مبهجة عند اعتماده، ومنها ما تطلب النقد والدراسة وتتبع أسباب الضعف والخلل، وبدأت عوامل النقد تثار على الوزارة والوزير على شكل موجات مختلفة الأهداف والأسباب وتصاعدت حدة النقد مع تتابع تبني المشاريع المقترحة.
وانتهت الفترة الثانية، والميدان يغص بمجموعة من الرؤى والتجارب والمشاريع التي تنتظر التنفيذ أو النقد الموضوعي والدراسة المتأنية والتمحيص الشامل لمكونات تلك المشاريع المقترحة بعد التطبيق فهي جهد مكلف وخطط متنوعة يصعب هدر ذلك بإلغائه أو تجاهله.
وجاءت الفترة الثالثة التي ينبغي ان تكون خلاصة واستقصاء واستثماراً لتلك التجارب والمقترحات، فهي رغم قصرها تمثِّل أهم مرحلة في المسار لأنها مرحلة فرز وموازنة وقياس، بعبارة أخرى تعتبر مرحلة النضج لحالة المخاض التي عاشتها الوزارة قرابة العقد من الزمن، فبنجاح بعض المشاريع التي تم توظيفها ومعالجة جوانب الخلل فيها واستكمال مراحل بنائها يمكن ان نحدث نقلة نوعية في صورة التعليم العام في المملكة.
وهنا يتبادر هذا السؤال:
ما الذي ينبغي ان يكون عليه مسار التعليم في المرحلة الجديدة لوزارة التربية والتعليم أي في المرحلة الثالثة من فترة عمل معالي الوزير والخبير التعليمي؟
كرؤية راصد ومتابع عن قرب للفترات السابقة من عمر الوزارة، ولمتطلبات التعليم المستقبلي - بحكم مساهمتي في التأليف بهذا المجال- أتصور ان الفترة المقبلة تتطلب جملة من الإجراءات كي نحقق تميُّزا في صورة التعليم، فالوزير يؤكد بقناعة الواثق خطورة المرحلة القادمة حينما يقول في كتاب له (إن جيلنا المقبل تتحداه قوى خطيرة ليست هينة ولا يسيرة.. إن المستقبل الذي سيعايشه جيلنا الصاعد أقوى تحدياً من حاضرنا فلئن غلبنا في بعض المعارك وكانت أقوى منا فالحل - والتحدي أعظم - هو إيجاد الجيل الأفضل في إيمانه ويقينه وفي خلقه وسجاياه وفي علمه وتقنيته هذه حقيقة كالبدهيات وإن كان بعضنا عنها غافلين).
ولتحقيق التميُّز المأمول ينبغي العمل بجدية واتزان لاصلاح شمولي لواقع التعليم بكافة جوانبه وبشفافية ومن خلال كوادر واعية لحجم النقلة ومقدار التكلفة ومن خلال استشراف القادم وتوظيف الميدان الاجتماعي على اعتبار ان التربية كما يقول أحد رجال الفكر التربوي أكبر من ان تترك للتربويين وحدهم.
- في البدء - لا بد من مراجعة بعض بنود السياسة التعليمية القائمة والتي كانت ولا تزال نموذجاً للبناء التربوي المتميز وقد حان الوقت لمراجعة مكوناتها بحيث تفرز بنودها إلى مواد تمثِّل سمة الثبات والرسوخ فتدعم بما يحفظ لها استمرار الثبات والقدرة على المواجهة والرسوخ من خلال أساليب عرض متطورة تتجاوز الإطار التقليدي القائم على مجرد الحفظ دون الاستيعاب والحوار، وأخرى خدمت فترات سابقة وخف وميضها وتطلب الأمر استبدالها.
كما ينبغي مراجعة بنود الأهداف العامة والخاصة للمراحل التعليمية الثلاث وتضمينها ما تتطلبه الحاجة المستقبلية، والانطلاق إلى حجم ونوعية بعض المناهج والمقررات التعليمية ومراجعة مكوناتها بدرجة تعمِّق درجة الهوية وتحقق الحصانة وتوفر متطلبات المجتمع ولذلك حديثه الخاص في مقال آخر إن شاء الله.
كما أنه لا بد من بث الروح العلمية في الناشئة المتعلمة القائمة على التجريب والاستقصاء وتقدير أهمية العمل وتوظيف المشاغل التربوية بمختلف أنماطها وتهيئة بيئة الإبداع من خلال زيادة دعم المؤسسات وتحقيق الامكانات التي تهيئ ذلك.
لعل من المفيد أيضاً تكوين لجنة مستقلة سواء داخل أو خارج الوزارة تُعنى بدراسة وتقييم كل المشاريع والتجارب المقدمة للوزارة دراسة عميقة يؤكد فيها عامل الظروف والإمكانيات وخصائص المملكة وتحديد درجة الجدوى والاستثمار وأبرز المشاكل والمعوقات التي سيواجهها المشروع المقترح فيستمر عمل هذه اللجنة قبل وبعد التطبيق لتلك المشاريع المقدَّمة.والميدان التربوي هو مصنع وتنفيذ المشاريع التربوية وهو المعيار المحدد لواقعية المشاريع والتجارب وكلما كان الميدان مستوعبا للمشاريع المقترحة كلما كتب لها النجاح والاستيعاب، يتحقق تفعيله من خلال التأهيل والتدريب ومن خلال نقل كامل الصورة بأبعادها والتواصل والمشاركة على أنه يمكن ان يُعزى الضعف في بعض المشاريع التي تبنتها الوزارة إلى عدم حماس المجتمع التربوي ولعدم تفهمه أبعادها وخصائصها وأهمية تلك المشاريع.
والمعلم هو العامل والفني البارز في مصنع التربية والتعليم، وكلما كان ماهراً مخلصاً ومتفانياً في الأداء كلما تحققت الصورة المشرقة في عملية التعليم، وأجزم ان هناك عوائق تحول دون الوصول للمعلم المتميز، منها الحجم المطلوب والمتزايد لعدد المعلمين في بعض التخصصات نتيجة للتوسع الأفقي في قاعدة التعليم مما لايتسع معه حالة الانتقاء والاختيار، وإعداد المعلمين القائمين على رأس العمل والذي يتعذَّر معه إعادة تأهيلهم جملة واحدة، لكن التوجه الفاعل يتمثل بالقدوة واعتماد الحوافز وإعادة النظر في مستوى المناهج والبرامج المقدمة في كليات التربية والمعلمين.
إن إعطاء طرائق وأساليب التدريس العناية الكبرى بحيث يكون هذا الإجراء منطلق البداية ومنتهى التنفيذ إجراء سيغيِّر الاستراتيجية التقليدية القائمة على جهد المعلم إلى الصورة المرغوبة القائمة على تفاعل عناصر العملية التعليمية وفق أسلوب النظم فالمتعلم مثلاً سيكون مشاركا رئيسا في اكتسابه المهارات والمعلم مراقب وموجه لذا ينبغي البدء في تطبيقه ولو بصورة تدريجية ولمرحلة معينة وتحت مراقبة اللجنة المقترحة.
أخيراً والأهم هو العمل على استثمار منتجات الصناعات الثقافية بطريقة فاعلة وخاصة الحاسب الآلي ولذلك أساليب عدة فاعلة تُمثِّل الاستثمار الحقيقي، فعلى سبيل المثال لِمَ لا يتم البدء في تنفيذ دروس نموذجية موجهة لطلاب المرحلة النهائية من الوزارة ولجميع مدارس المملكة بوقت واحد ويكون دور المعلم مجرد مراقب كما ان استثمار الانترنت بطريقة محكومة سيحقق فرصا تعليمية متميزة.
آمل ان تفتح الفرصة لمشاركة كافة الخبراء والمهتمين بقضايا التربية والتعليم لكي تتلاحم الرؤية وتنتفي حالة الرقابة والنقد غير الموجه ولكي نشد بأيدينا جميعا مع أيدي صانعي التعليم الذين يتفانون في تقديم ما يرفع من صورة التعليم.
|