عندما تكون لقمة العيش هي الهدف الرئيس الذي يسعى الإنسان إلي تحقيقه، يكون هذا الإنسان على استعداد تام للتخلي عن كل طموحاته الأخرى باستثناء هذه اللقمة التي قد لا تكون في كل الأحوال شهية. وعندما يلهث الإنسان وراء هذه اللقمة، يكون على استعداد لتعطيل تفكيره الرشيد مؤقتا حتى يتحقق له الهدف الأسمى وفقاً لأولوياته الحياتية.
أذكر ما تقدم تعليقاً على خبر مزعج نشرته إحدى الصحف اليومية حول تكدس المتقدمين على وظيفة جندي المعلن عنها في معهد الجوازات التابع للمديرية العامة للجوازات.
فقد أشارت تلك الصحيفة إلى أن عدد المتقدمين للوظائف الخمسمائة المعلن عنها تجاوز الخمسة آلاف شاب ممن يحملون شهادات جامعية ومؤهلات متخصصة من كليات التقنية بالإضافة إلى حملة المؤهل الثانوي.
الغريب في الأمر هو أن أبناءنا الذين أمضوا الليالي الطوال في دهاليز الجامعة وورش كليات التقنية يحدوهم الأمل بالحصول على وظيفة تتلاءم وتخصصاتهم وتتوافق مع الجهد الكبير الذي بذلوه، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى التنازل عن تلك المؤهلات طمعاً في الحصول على هذه الوظيفة التي لم تكن في الماضي على الرغم من شرفها هدفاً مستقبلياً لهؤلاء الشباب. فإذا كان المؤهل المطلوب لشغل هذه الوظيفة أقل من مؤهلات المتقدمين، وإذا كان الشاب يسعى إلى تحقيق الستر الاجتماعي من خلال هذه الوظيفة، فإن من الواجب علينا جميعاً أن نعي التداعيات السلبية الخطيرة التي يخلفها هذا الواقع المر على واقعنا الأمني والاقتصادي والاجتماعي.
فمن ناحية نجد أن هذا الشاب الذي وجد نفسه تحت ضغوط اقتصادية واجتاعية أجبرته على قبول ما لا يتناسب وطموحاته المستقبلية لن يشعر بالانتماء لهذه الوظيفة التي لم تكن في الماضي من أهدافه الاستراتيجية. وإذا كنا نعلم بأن معدلات الالتزام والإتقان الوظيفي ترتبط طردياً بمستوى الانتماء للوظيفة، فإن ما نخشاه هو الانعكاس السلبي لهذا الإجراء على مستقبل العمل الأمني في قطاع الجوازات وغيره من القطاعات الأمنية الأخرى.
ومن ناحية أخرى نجد أن تأهيل هؤلاء الشباب في الجامعة أو في كليات التقنية قد كلف الدولة الكثير من المال وكلف الشباب الكثير من الجهد والمال مما يتطلب حسن الاستفادة من المخرجات في مواقع تتناسب مع متطلبات التنمية وتتوافق مع الأهداف المعلنة لسياسات التعليم في المملكة العربية السعودية. ولكن الذي نراه هو أن نتيجة هذا الإنفاق الهائل وهذا الجهد الكبير قد ذهبت أدراج الرياح بعد أن اضطر المتقدم على وظيفة الجندي إلى التنازل عن مؤهلاته ليكون مؤهلاً لشغل هذه الوظيفة وكأننا بذلك نسير في اتجاه معاكس لمقتضى المصلحة الوطنية التي تقوم على ضرورة تحقيق الاستثمار الجيد للموارد البشرية والمادية.
يا سادة.. إن مثل هذا الإجراء لا يمثل نقلة نوعية في مستوى تأهيل رجل الأمن، ولا شطارة إدارية استطعنا من خلالها ملء الشواغر بأصحاب المؤهلات العالية، ولكنه في الواقع يعكس المستوى الخطير الذي وصل إليه سوق العمل السعودي الذي يخضع وللأسف لسيطرة شبه كاملة من قبل العمالة الأجنبية.
لقد ساءت حال هذه السوق حتى أصبح الشاب السعودي يلهث وراء فتات الفرص في القطاع الخاص ويتنافس في سبيل الحصول على هذا الفتات مع كل من هب ودب من العمالة الوافدة دون أن تعطيه المواطنة ميزة نسبية تساعده على تجاوز حدة المنافسة.
إن مثل هذا الواقع سيؤدي بلا شك إلى انعكاسات وتداعيات خطيرة على واقعنا ومستقبلنا الأمني سواء من خلال تدني روح الانتماء للوظيفة الناتج عن تعالي هؤلاء على متطلباتها أو من خلال تدني روح الانتماء الوطني لدى الفئة الأكثر التي لم تجد لها على أرض الوطن لقمة عيش كريمة تصون بها كرامتها الاجتماعية وتحقق من خلالها طموحاتها الاقتصادية. لقد نادى الكثير من المختصين بضرورة السعي الحثيث وراء إصلاح سوق العمل السعودي كإجراء هام لتلافي الانحرافات السلوكية والفكرية لدى الشباب ونحن الآن ننادي بسرعة تحقيق هذا الإصلاح للمحافظة على روح الانتماء للوظيفة الأمنية ولتحقيق الاستغلال الأمثل لمواردنا المادية والبشرية. فهل يتحقق ذلك.. الله أعلم.
|