أيما أمة أرادت أن تحجز لنفسها في عالم اليوم موقعاً متميزاً ونهضة شاملة ورهبة فعلية لدى الآخرين فعليها بالعلم الذي أضحى مقياساً لتقدم الشعوب إلى الأمام أو رجوعها التقهقري! فكم من علم رفع من شأن أناس لم تكن لأوائلهم توقيعات في دفتر التاريخ ولا بصمات على جدران العمران الحياتي ولم تذكرهم أساطير الأولين بخير أو بشر، إذ كان آباؤهم ببدء البشرية أمة من الرُعاع المندسين في غياهب ظلام الجاهلية يُعايشون قسوة العصر الحجري ويمثلون بحق جدلية الحيوانات الناطقة التي خالفت الحياة البهيمية في وبر الجسم وقرون الرأس والذيل الطويل.
هكذا علمتنا فصول الحياة وتلقين الأساتذة ما كانت عليه تلكم الشعوب التي انغمست في جهل مظلم دامس حالك السواد وقليل منها استجاب لدعاوى الأنبياء المرسلين الذين أرسلوا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتجلى النور المبين بخاتمة تلك الرسالات السماوية دعوة الإسلام السمحة التي أول ما تلقى منها النبي الأمي محمد مع بداية بشريات الرسالة والقول الثقيل الذي يتنزل عليه بمخاطبته صلى الله عليه وسلم في أول آية نزلت من الكتاب المكنون قوله جل وعلا: {اقًرأً بٌاسًمٌ رّبٌَكّ الذٌي خّلّقّ} فكان التكليف بالقراءة دلالة على أن الدين لا يقوم على الجهل ورفض الآخر إن كان مفيداً، وبزغ الشعاع المنير من ثنايا ما أتت به الشريعة الإسلامية الغراء حيث أمرت بالإفادة من كل علم نافع لتمحو بنورها ظلام الجاهلية وتنشر النور المبين وقد كانت إرادة الله جل وعلا أن يسخر لهذا النور رجالاً يمشون به كالنجوم الزواهر إذ ما مضت أعوام حتى غطت أنوار العلم شتى المساحات التي شغلها الجهل زمنا طويلاً وتباركت علوم المسلمين على أهلها ثم فاضت لتنفع آخرين، بل أصبحت مرجعا لعلوم الغرب التي يتباهى بها اليوم متشدقاً بفتوحاته العلمية ونهضته الحديثة.
إن العارفين من أهل العلم ببواطن الأمور يعترفون أن النظريات التي قامت عليها النهضة الصناعية المذهلة في بلاد الغرب لم تلدها بنات أفكارهم إنما تلقفوها عندما وصلوا إلى حقيقة أن مُبدعيها وآباءها الحقيقيين قد انصرفوا عن هذه البضاعة الثمينة وتركوها مزجاة في قرطبة وغرناطة وباعها كثير منهم بثمن بخس لراكبي البحار والرحالة الأوروبيين الذين أوصلوها لتلك الديار وفكوا طلاسمها وحلحلوا رموزها ليجدوا قواعد الحساب والجبر والهندسة وفنون الفلسفة كلها مطوية في رقاع علماء المسلمين المرتحلين ووجدوا مبادئ الفيزياء ومكنونات الأحياء وإبداع المؤانسة ومتع الحياة رخيصة بين أيديهم دونما عنت ومشقة وتفكير وإرهاق عقول وتصبب عرق على لحى علمائهم الذين اقتسموا كعكة العرب الضائعة بين ماراثون السباق نحو تقسيم الزعامات واعتلاء العروش وحشد الخدم واكتناز الذهب والفضة والحرير المنمنم بأصداف المعادن نادرة الوجود وضاعت وقتذاك الهدية وبدأت معالم العرب في الانطماس وحل علينا عصر الانحطاط بكل مساوئه التي كرست مفهوم التفرق ومهدت الطريق معبداً أمام جيوش المغول وجحافل الصليبيين الذين اندحروا تارة وعادوا تارة أخرى بفكر الاستعمار الفكري بعدما علموا أن العقول قد خوت على عروشها من العلم الذي يعتبر صمام أمان الخائفين.
تلك هي حالة الشعوب التي عاشت تحت وطأة الاستعمار القاسية فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، لكني أشكو حالنا اليوم فما بالنا نترسم خطاهم ونحنّ إلى عهدهم ويسير بعضنا على نهجهم وقع الحافر على الحافر وقد تلاشت الأسباب إذ أضحى العلم متاحا لمن كد وواظب ورغب في الإمساك بتلابيبه.
وقد وجب علينا أن نتفاءل أمام السعي الحثيث لحكومة مولاي الفهد خادم الحرمين الشريفين لاسترداد بضاعتنا من الغرب والتشجيع على نشر العلوم العصرية بدلا من استجلاب الأسلحة والأفكار الدخيلة وعلمنة الحياة، فها نحن نحس بصدقهم في توطين التكنولوجيا على ثرى المملكة العربية السعودية لتحقيق الازدهار والرفاهية لشعبهم ومن يعيش تحت كنفهم ويأنس بظلهم لا كما أذاق صدام العراق شعبه الفقر والجهل وصرف أموال الذهب الأسود الطائلة على ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل التي دمر بها نفسه وشعبه وأمته العربية بحصاد ما اقترفت يداه والمؤمن من اتعظ بغيره، هذا والله الهادي إلى سواء السبيل.
عضو الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
فاكس: 014803452
|