الأزمات تحرك العقل الباطن، ليأخذ حذره، ويحفز طاقات الأمة، لمواجهة الأحداث الجسام، و(اللقاء الوطني للحوار الفكري) ائتمار بالمعروف، ينسل من تحت ركام الفتن التي تعصف بالمنطقة المنكوبة، والممتد إلينا دخنها الخانق. وهو مؤتمر لم أسعد بحضوره، وليس مهماً ولا واجباً أن أدعى إليه، وليس من شرط المشروعية والنجاح أن أكون حاضره. فمثل هذه المبادرات الإيجابية فروض كفاية.. وليس ما أقول من باب العتب، ولا من باب التطلع ولفت النظر، ولكن ليُعلم أنني قارئ محايد، يبارك تلك الخطوات، ويرجو لها التسديد والتوفيق والنجاح. ولو تمنيت أن أكون معهم، فإنما لأبثهم شكايتي وتأوهاتي، فالواقع العربي والإسلامي يشقى به الجهال قبل ذوي العقول، وقديماً قيل:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
فكيف به إذا كان وسط الشقاوة، تتقاذفه أمواج التآمر والتماكر، ويحاصره الغزو العسكري والفكري، ويشلُّه التدخل في أخص خصوصياته، فيما يجتال الإنسان العربي دعاة سوء، وهو في غفلة عن هذا، لم يكشف عنه غطاء الجهل، ولما يكن بصره حديداً. وفوق هذا يعج المشهد الفكري بخطابات متناقضة الانتماءات والتصورات، يختلط فيها الغث بالسمين، والسياسي بالدين، ويتنازع فيها الوصولي والأصولي والحداثي والعلماني والسلفي والانتهازي. وما أكثر الناس ولو حرصت بعارفين لأصول هذه الانتماءات، ولا متفهمين لدلالتها، ومع ذلك يحسبون أن الحرية تعني فعل الممكن والخلط بين الثابت والمتحول، وإعطاء العقل ما للنص وتمكين الدهماء من حقوق النخبة، والخوض في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. هذا الإنسان المنتهك، يجمع بين العيلة والاستكبار، وينهكه جدل (البيضة) و(الدجاجة)، ينهش ذاته، وينازع نفسه، ولا يزيد قومه إلا خبالا. ولما كانت في النفس حاجات، وليس في القوم فطانة، فإن كتمانها لا يكون جواباً ولا خطاباً. ولا بد - والحالة تلك - من التفكير بصوت مرتفع، للخلوص من ضواغط الواقع. والوطن العزيز بأهله ومبادئه، المصاب بدخن الفتن، بحاجة إلى أبنائه الناصحين لله ولرسوله ولولي الأمر، يرودون له، ويحمون ساقته، ويكونون ظهيراً لقادته، يصدقونهم القول، ويمحضونهم النصح، ويُسرُّون لهم بالتقصير، يَعذرون ولا يُعذرون، ويُسددون ويقاربون ولا يتملقون.
والتوصيات التي أفاض ببعضها المؤتمرون مخاض عقول، عركتها الحياة، وحنكتها الخبرات، ومن ثم جنحت إلى الهدوء، والسكينة، وإصلاح ذات البين، متمشية مع الظروف القائمة، المقتضية للتهدئات، وفك الاشتباكات، والتعاذر، والتبصر في الأنفس، والاشتغال بالذوات. فكل إنسان يحمل من النقص والتقصير بحق نفسه وعقيدته وأمته ما يحتاج معهما إلى الجهد والوقت والتأمل الذهني للتخلص مما ران على القلوب، ومع أن التوصيات من معتصر المختصر، فإنها جاءت فضفاضة عائمة، وإن كنت أتوقع أن في السقاء بقيةً لم تدلق في أنهر الصحف. وعلى كل الاحتمالات فإنها أحوج ما تكون إلى فريق عمل يصنفها، ويتقصى متعلقاتها، و يدفع بها إلى جهاتها، بحيث تتسرب عبر المناهج التعليمية، والخطب الوعظية، والوسائل الإعلامية، ليتمثلها الشباب الذين يجمع لهم الناس ما يرديهم، وأفكار الشباب كالأرض الموات يظفر بها من سبق وأحيا. ولأهمية مثل هذا اللقاء فإنه يتطلب الشفافية والإشاعة والإذاعة والإرهاص والإعداد المسبق، ليكون في مستوى النكبات المتعاقبة (كسهام المتنبي)، غير أن المنظمين والداعين للمؤتمر فاجؤوا الوسط الفكري بما لم يكن في الحسبان، فلم نسمع عن موعده، ولا عن دعاته ومدعويه وضوابطهم، ولا عن جدول أعماله، ما يمكّن من تهيئة الأنفس، وتحشيد المشاعر. ولقاء بهذه الأهمية والاحتفالية، وفي ظل هذه الظروف العصبية، لا بد أن يُسبق بتهيئة الأجواء، المتمثلة باستطلاع الآراء، واستشارة ذوي الاختصاص والمهتمين، من فقهاء في الدين والواقع، ومعلمين يعرفون دواخل الشباب وحاجاتهم و«أكاديميين» متخصصين في معارف العصر، وأدباء ممتعين مستميلين مقنعين، ومفكرين يعرفون دخائل الأفكار، وإعلاميين يبلغون رسالات النخب.
ونظراً لتفاقم الأوضاع العربية والعالمية، وحاجة الأمة إلى السكينة والجنوح للسلم، وتأليف القلوب، فقد تمحور المؤتمر وتوصياته حول عنصرين هامين: (الوسطية) و(الاعتدال) حتى لقد سبق إلى ذلك خطاب (ولي العهد) للمؤتمرين.
وجاء هاجس (الوحدة الوطنية) في أكثر من سبع توصيات، مؤكداً الاهتمام بالجبهة الداخلية، فيما تمخض اللقاء عن اثنتين وعشرين توصية، تمثلت في (التقوى) و(المشاركة) و(الوحدة الوطنية) و(احترام العلماء) و(تعميق معاني البيعة) و(الاهتمام بالمواطن) و(تكافؤ الفرص) و(التربية والتعليم) و(قضايا الشباب) و(الإعلام) و(الإصلاح) و(الوسطية) بين الغلو والتحلل و(الحوار) و(قبول الاختلاف) والتعايش معه و(دور المرأة) و(حرية التعبير) بضوابطها الثلاثة و(ضبط الفتوى) و(الحد من قاعدة سد الذرائع) و(وعي الظروف) و(ضوابط الجهاد) و(دعم المقاومة) و(استنكار الاعتداء) و(مناهضة الاحتلال) وكل محور من هذه المحاور عولج بلغة دبلوماسية حمالة، تكاد تصل إلى حد: (تحصيل الحاصل). وأخشى أن تكون التوصيات رغبات وتطلعات، وليست قضايا حدية مؤطرة ملزمة، بحيث يمكن مباشرة العمل على ضوئها، إذ لم تحدد جهة التنفيذ والمتابعة، وإن تطلع المجتمعون في (التوصية الثالثة) إلى إنشاء (مركز للحوار الوطني)، يقوم بمهمة التنظيم وإعداد البحوث، وكم نود لو أنشئت (أمانة عامة) تشكل من الوزارات المعنية: بالتعليم، والثقافة، والدعوة، والاجتماع، والشباب. تكون مهمتها المتابعة والرصد والتوجيه والإعداد للقاءات دورية. ولأن التوصيات قد جمعت وأوعت، فإنها بحاجة إلى تفكيك وتصنيف، وقيام كل جهة بتنفيذ ومتابعة ما يخصها. والتفكيك والتصنيف والتنفيذ والمتابعة ضرورة ملحة، ذلك أن كل واحدة من التوصيات يندرج تحتها كم من الضوابط والرغبات والتطلعات التي تساور كل مخلص لدينه ووطنه وأمته. والإشكالية ليست في القول السديد، ولا في الكلم الطيب، فما من ناصح إلا ويستبطن ذلك ومثله معه، وله رؤيته ومفهومه وتصوره وإحساسه، وإنما هي في البرهنة الفعلية، والاستعداد للتضحية، وإيثار المصلحة العامة، وقبول التنازلات الطوعية، وتقريب وجهات النظر، مع تفادي تمييع الحدود، وتلميع النكرات، وانمساخ الذوات، بحيث لا تكون هوية ولا ماهية. فحين نقول ب(الوسطية) - مثلاً - فإن لها مفاهيم بعدد المتصورين لها، فكل مفكر يدعي أن رؤيته تمثل الوسطية. ولهذا لا بد أن نقيم الحدود، ونحدد (المرجعية): النصية والشخصية، وأن نقارب بين مفاهيمنا: للحق، والحرية، وأمداء التأويل، ومجال العقل والنص، وضوابط التعامل مع المستجد. وأن نعي معنى (الوسطية) و(التطرف) و(الغلو)، ولا تجوز في مثل هذه المواقف الحساسة الاطلاقات العامة العائمة، ولا التعويل على المعهودات الذهنية، فلقد نهى القرآن عن (الغلو) مرتين، وربطه بالأمثال، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم بحق الغلاة في العبادة، فضلاً عن غيرها: (من رغب عن سنتي فليس مني) وربط ذلك بالأمثال، ولقد مرت الأمة الإسلامية بحالات من التطرف والغلو، انعكس أثرها السيىء على مستقبلها، وكان أولها موقف الثلاثة الذين تقالُّوا عبادة الرسول، وموقف (أبي ذر) في أمر الكنز، وأخطرها تطرف (الخوارج) الذين تقربوا إلى الله بقتل من يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. ومعالجة الغلو في الدين يجب أن تواكبها معالجة الغلو في (العلمنة) و(الاستغراب) ف(كلا طرفي قصد الأمور ذمم)، وكل تطرف يتولد منه تطرف مضاد، وحفظ التوازن يتوقف على نزع الفتيل من الطرفين. وكان على المؤتمرين الدقة في تحديد مفهوم الاختلاف، بوصفه طبيعة بشرية، الاختلاف المعتبر الناشئ من الاجتهاد المشروع. إذ ليس كل اجتهاد مشروعاً وليس كل اختلاف مشروعاً، ومن ثم فإن التوصيات لم تعمق الرؤية عن مشروعية الاجتهاد، وصفة المجتهد، ومجال الاجتهاد، وحق الاجتهاد. ولعلماء الأصول قول حاسم في مراتب الاجتهاد ومشروعيته، وكل خلاف منشؤه الاجتهاد. فالقراءة التفكيكية للنص ترتبط بالخلفية الثقافية والمذهبية، أو ما يسمى بالأنساق، وقلَّ أن يكون هناك قراءة بريئة، تنشد الحق، ولا تبحث عن تأييد الموقف، فحين يكون النص حمالاً أو غائباً، يكون الاجتهاد واجباً، والاختلاف متوقعاً، ولهذا قال العلماء (لا اجتهاد مع النص) ولقد كانت لي إشارة سابقة حول مفهوم (النص) عند الأصوليين، وهو مفهوم مغاير للمفهوم المعاصر، ف(النص) عند (النصوصيين) لا يعدو الاهتمام بالبناء اللغوي، ومن ثم شاعت (الألسنية) و(الأسلوبية) و(البنيوية) و(التشريحية) ومرادفاتها: (التقويضية) و(التفكيكية). أما (النص) عند الأصوليين فهو: (القول الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة). واختلال الجبهات الداخلية، وتعكير صفو الوحدة الوطنية، إنما تأتي من مبادرة الاجتهاد الفردي غير المشروع، والخروج برؤى مناقضة لما عرف من الدين بالضرورة. ولو أن المجتهدين نظروا أولاً في أهليتهم، وأهلية النص، وقدرته على إعطاء دلالات جديدة، لاستيعاب النوازل، ولو أنهم قدموا مصلحة الأمة المتمثلة بجمع الكلمة، ووحدة الصف والهدف، لما كان هناك خلاف يؤول بالأمة إلى اضطراب وحدتها وارتباك جبهتها.
وإذ سيئت الأوضاع من تلاحق (الفتاوى) الفردية في القضايا المصيرية ك(السياسة) و(الجهاد) و(التكفير) و(الولاء والبراء) و(السمع والطاعة) فقد جاءت إحدى التوصيات أكثر عمومية وإطلاقاً، مع أن الفتيا المخالفة ناتج اجتهاد غير مشروع، أو تقليد غير واع، وكان يجب التفريق بين فتيا (العبادات) و(المعاملات) و(الحقوق) المتعلقة بذات المستفتي، والفتيا (الأممية) المتعلقة بالفكر السياسي الإسلامي، فما كان فردياً يمكن أن يفتي فيه أي عالم شرعي، وما كان (أممياً) فلا بد فيه من الرجوع إلى (مجمع فقهي) أو (مؤسسة علمية) معتمدة من قبل الدولة، وموثوقة من قبل الأمة الإسلامية، على أن تراعى فيها (أحوال المسلمين) المتردية و(العلاقات الدولية) و(العهود والمواثيق) و(المصالح المشتركة) و(مقتضيات البيعة) ومن توقف من العلماء المفتين أوتحفظ أذعن للأغلبية، ولم يشع موقفه بحثاً عن الاتباع. وإشكالية (الفتيا الأممية) أنها تأتي على صيغة معارضة لما تواضعت عليه الأمة، وعلى شكل منشور، وقد تكون ناتج تسرع وعدم تثبت، ولم يتوفر مُصدرها على الفقه وأصوله، ولا على فقه الواقع وضوابطه، ولا على مقتضيات البيعة الإسلامية، ثم لا يكون المفتي ورعاً، ولا مهتماً بما تحدثه الفتيا من تفرق في الكلمة، وبلبلة في الأفكار. وقد تكون الأسئلة موجهة ومسيسة، بحيث تتمخض عن إجابة مثيرة، لا تستوعبها براءة المفتي. ولهذا يجب أن تحدد هذه التوصية، وأن تفعل، وأن يمكن سائر العلماء المتخصصين في الفقه من فتيا (العبادات) و(المعاملات) و(الأحوال الشخصية)، أما فيما يتعلق بقضايا الأمة ومصائرها والفقه السياسي، فيوكل إلى مؤسسات علمية، تراعي الأحوال والظروف.
ولما كانت (المرأة) مناط المشاكل في الطرح الإعلامي، فقد عرض لها المؤتمرون بما لا يشفي ولا يكفي، وقضايا التماس بين المصطرعين حول المرأة لا يكفي فيها مرور الكرام، فحرية المرأة، وعملها، وحقوقها، مناط كل ذي ريبة، و(تحرير المرأة) لما نزل معه، منذ (قاسم أمين)، حتى يومنا هذا، يقول به المحق والمبطل، حتى لقد آلت المطالبات بأحوال المرأة إلى أن: رقصت، وغنت، ومثلت، وتبرجت، واختلطت، وخلت، ومالت، واستمالت، وتعرت وهي كاسية، عارضة أزياء، ومستعرضة مفاتن، تاركة مملكتها وزوجها وفلذات كبدها للوحدة أو لامرأة أجنبية، لتتشرد في مملكة الرجال، تشقى في المصانع، وتعمل في المكاتب، وتخدم في المقاهي والمطاعم والطائرات، منفقة كسبها في الأصباغ والمساحيق، مستنكفة من خدمة الزوج ورعاية الأولاد، ولما يزل الأوصياء يطالبون بمزيد من التنازلات، ولم يتمعر وجه أحد منهم مما وقع لها ومنها. والمرأة في ظل الإسلام حرة مكرمة، فهي من الولادة حتى الزواج في دلال الأب، ومنه حتى اليأس في دفء الزوج، ومنه إلى الوفاة في بر الأبناء والأحفاد، الجنة تحت أقدامها، والنظر إلى وجهها عبادة، ومن ثم فهي بين الجمال والجلال. وكان علينا - والحالة تلك - أن نبحث في (حرية الرجل)، فهن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام، وخير الرجال خيرهم لأهله، وقد حدد القرآن عمل المرأة بشرطين:
- قيام الحاجة.
- ومنع الاختلاط.
وذلك في قصة (بنات شعيب) مع (موسى) ومتى قامت الحاجة، أبيح العمل، ووجب التعليم، للتوفر على الأداء السليم (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) والقول في الحقوق على الإطلاق مظنة الفتن، فكل خائض في قضايا المرأة يرى أنه المحق، وتوسيع دائرة مشاركتها، لتكون معلمة أو طبيبة أو تاجرة أو مشاركة في الرأي، أو فيما لا يقوم به سواها مطلب عادل، وحق مشروع، ولكن يجب أن يعلم الجميع أن المرأة حين تبارح المنزل لعمل يمكن أن يقوم به الرجل فإنها ستترك مملكتها لامرأة أجنبية، وسترفع نسبة البطالة بين الرجال. فالقرار في البيت هو الوضع الطبيعي، والخروج منه ضرورة، تقدر بقدرها، وما ينال المرأة من حيف أو ظلم من اللئام، لا يمت إلى الإسلام بصلة. وقد طالبت الصحابيات بحقوقهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكون استبداد الرجال، ومنهن (أم عُمارة الأنصارية) فليس هناك من بأس أن تطالب المرأة بحقوقها المشروعة، ولا أن يُثنى الرجال عن تجاوز حق (القوامة)، وقد ثار الجدل بين الصحابة حول حديث (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، ولكن البأس كل البأس أن يحاول الغربيون والمستغربون تحويلها إلى جنس ثالث ممسوخ، أو أن يخلطوا بين مهمات الرجل والمرأة. والمرأة الغربية التي أعطيت ما لم تعطه امرأة في التاريخ، لما تزل تعيش التعاسة والبؤس، ولما تزل تتعشق دفء البيت وقوامة الرجل. وإذ يكون اللقاء للحوار الفكري فإن عليه ألا يمتد إلى ما سواه من أمور الحياة المعيشية، وأن ينتقل من الحوار إلى الفعل، وأن يفرق في التحاور بين عصمة النص وقداسته وخطاب المتدين واحتمالاته، ويبقى اللقاء مع كل التحفظات والتساؤلات حلقة مضيئة في سلسلة المبادرات الإيجابية، فإلى مزيد من التجليات، وإلى مزيد من تفعيل التوصيات، وتقليص الشكليات.
|