«1»
نأيت كثيراً عن تناول موضوع ما بعد الحداثة لأنه قد يبدو دخولاً في موضوع لا ثمرة فيه بمجتمعات لما تزل تناقش مقدمات الحداثة ولم تدخل فيها، ومن ثم يُرى على أنه ضرب من الترف الفكري في خضم اضطرابات عالمنا العربي. إضافة إلى أن تناولها في مقالة عابرة يعد مجازفة لموضوع يكتنفه الغموض ويصعب سبره وتحديد معالمه دون الدخول في مطولات. ولكن «حالات» ما بعد الحداثة دخلت في الدول المتقدمة تكنولوجياً ومن ثم فقد اندرجت موضوعاتها في عالمنا الحالي وأثرت فيه.
هل يمكن تعريف ما بعد الحداثة بوضوح؟ لا أظن، فهي من أكثر المصطلحات استعصاء على التحديد نتيجة التفاوت الهائل بين التعريفات التي صاغها مفكروها ولما تتميز به من التشتت والتناقض، بل ذهب البعض منهم إلى عدم امكانية التعريف: «لأن مفهوم ما بعد الحداثة متناقض من داخله.. فهي ليست شيئاً ثابتاً يمكن صياغته وتجميده ومن ثم الرجوع إليه عند الحاجة لاستعماله..» (جيمسون). ونتيجة لصعوبة التعريف فلا بد من التوصيف، وفي ظني يمكن تلمس مفاهيم عديدة لذلك منها من يرى أن ما بعد الحداثة نقيض للحداثة ونفي لها، وهذا تصور حداثي وليس ما بعد حداثي، ومن ثم يفتقد أولوية الاهتمام. وهناك من يرى ما بعد الحداثة على أنها حداثة جداً، أي تكثيف للحداثة وتوغل فيها، وهو رأي قلة وتصور عامي خاطئ، لأن كلمة حداثة في مصطلح «ما بعد الحداثة» ليست نقيضاً للقديم كما هو في مصطلح «الحداثة»، وكلمة «ما بعد» لا تعني التالي المناقض بل القادم المتجاوز للحداثة وإن كانت إنجازاً لها وإثراء للقديم والحداثي في آن معا. وهناك رأي وسطي، أميل إليه، يرى أن ما بعد الحداثة تختلف مع الحداثة حقبياً بكلمة «ما بعد» المستقبلية المنجزة وتتفق مع بعض الحداثة في وضع الشطر الثاني من المصطلح وإن كانت ليست نفياً للقديم «الأصالة والتراث». ويمكنني رؤيتها تبسيطياً كحركة جدلية هيجلية، بمعنى وجود فكرة قديمة «التراث» تصادمها و/أو تنفيها فكرة جديدة «الحداثة» فيولد الصراع بينهما فكرة ثالثة «ما بعد الحداثة» ولكنها غير ثابتة أو نهائية. إذن توصيف ما بعد الحداثة، يستدعي توصيف الحداثة.
توصف الحداثة من قبل دعاتها بأنها وليدة عصر التنوير من علوم موضوعية وسيطرة على الطبيعة وتخطيط منهجي حولتها تطبيقات الثورة الصناعية إلى تكنولوجيا لخدمة الإنسان وتحقيق سعادته. وتبع ذلك نمو سكاني وعمراني هائل وبناء الدولة القومية والمجتمعات المدنية وما صاحبها من توحُّد طبقات اجتماعية كانت مهمشة وتحديها للفئات الحاكمة وقيام دولة القانون والمؤسسات والحرية والمساواة.. الخ. كل ذلك أوجد بيئة جديدة ترى في التغيير المستمر شرطاً ضرورياً للتطور، مع رفض القديم. والحداثة عند «ما بعد الحداثيين» هي نتاج المجتمع والفكر الغربي الذي أنتج الثورات الشعبية لصالح حقوق الإنسان وسعادته، وفي الوقت ذاته خلقت طوباوياتها وأوهامها الإيديولوجية مبشرة بالرفاهية والعدالة، ولكنها أنتجت في بعض جوانبها التسلط والإحساس بتفوق الغرب والعرق الأبيض والإمبريالية والهيمنة على الشعوب ومقدراتها وصنعت الحروب العالمية والإبادات الجماعية وتدمير البيئة وأفرزت إيقاع الحياة السريع المرعب والاضطرابات الاقتصادية والسكانية والاجتماعية والنفسية.. الخ دعاة ما بعد الحداثة يرون الحداثة أخفقت بنظرياتها الشمولية الكبرى والأيديولوجيات والتعميمات ونموذجها المعقلن «ماركس، نيتشة، فرويد..» وافتراضاتها المتفائلة ومنطقها الأخلاقي بأن التقدم التكنولوجي يصاحبه بالضرورة خط مرادف من التقدم في الحقوق والمبادئ الإنسانية والسعادة البشرية.. بينما هي - ما بعد الحداثة - ترى حركة التاريخ كمسارات لولبية متشعبة وليست بالضرورة خطية أو مستقيمة أو منطقية، هذه المسارات ليست بالضرورة إيجابية بل إنها في بعض المجتمعات أدت إلى كوارث، وليست بالضرورة تقدمية لأنها تتواصل مع القديم كما تتنافر معه. هذا جعل ما بعد الحداثة تنضح بالتناقضات، ففي الوقت الذي تبشر به بالتجديد والتقدمية فكراً وممارسة فإنها تعنى بالتراث والأصالة ثقافة وأساليب، مازجة القديم بالحديث. فقد تمكنت شعوب وجماعات من مزج ذروة التقدم التكنولوجي والإلكتروني وأحدث أساليب التخطيط مع عقليات تنتمي لقرون مضت.
وعلى خلاف الحداثة التي تملك مقداراً من الثورية، خاصة في جانبها اليساري، فإن ما بعد الحداثة توصف بأنها حركة برجوازية غربية رغم أن دعاتها هم من المعارضين للهيمنة الفكرية الغربية، ومن المرحبين بالتعددية والتنوع الحضاري والذائقة الشعبية مقابل التجانس القومي والشمولية والنخبوية. وقد تترادف لدى البعض ما بعد الحداثة مع العولمة، ما بعد الصناعة، الرأسمالية المتأخرة أو العليا.. لأنه يتم بها تسليع النشاط البشري عبر تسخير كل النشاطات الحضارية من سياسية واجتماعية وثقافية إلى نشاط تجاري.
هل اتضحت الرؤية الفسيحة لما بعد الحداثة؟ لا أظن، يقول ابن العربي: «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة!» فالموضوع يحتاج لتوصيف أكثر ولأمثلة توضيحية ستحاولها المقالة القادمة بإذنه تعالى.. وقد قيل إذا اتسع لك المنهج، فاحذر أن يضيق بك الخروج!!.
|