Friday 27th june,2003 11229العدد الجمعة 27 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصة قصيرة قصة قصيرة
طفلة تحت المطر
كمال سابل عبدالحليم/الرياض

عقارب الساعة جاوزت الواحدة بعد منتصف الليل بقليل.. أقلعت الطائرة ودلف بها قائدها يسارا محاذيا النيل الأزرق ثم يمم بها صوب الشرق كانت السماء صافية والنجوم متناثرة كعقد من الألماس على صدر حسناء.. والنيل الصابر الصامد في رحلته يمنح الحياة بلا كلل أو ملل.
بدت له الخرطوم في أبهى حللها، كانت كعروس في ليلة زفافها، إنها الخرطوم مرتع الصبا وأحلى أيام الشباب، وفي كل مرة يغادرها ينتابه إحساس عميق بالمرارة ويشعر بغصة من الحزن تسد حلقه، وكثيرا ما ذرف الدمع الثخين وهو يغادر الخرطوم التي أحب فيها كل شيء.. أهلها.. شوارعها.. أزقتها، ليلها.. نيلها.. وأشجارها...
جلس وحيداً بقرب النافذة، أطرق ساهماً ببصره حيث تسمرت عيناه على بقعة أعتقد جازماً إنها ديارها، وتساءل في نفسه أين هي الآن ياترى؟؟ هل رفعت عينيها الجميلتين لترى هذه الطائرة وتخيلت أنه قابع في جوفها؟ أم تراها استسلمت لنسمات الليل الباردة وراحت تغط في سبات عميق؟..
الطائرة تجاهد الصعود نحو آفاق أرحب وأزيز محركاتها يمزق سكون الليل، تماماً كما مزقت سهام عينيها قلبه الجريح.
أغمض عينيه برهة واستسلم لخياله مسترجعاً ذكريات المساء الوردي.. (شجرة ماحى بيه والمنديل المعطر) حيث اللقاء الأول الذي جاء صدفة بعد ان ظن أن شجرة الحياة قد تساقطت أوراقها، وان هناك وتراً في القلب يظل بانتظار من ينفض عنه الغبار ويعزف عليه لحناً شجياً يعيد للحياة ألقها وضياءها.
هكذا جاء اللقاء الأول يحمل اللوعة واللهفة والشوق الدفين، عشرة أعوام مضت وهو يحمل كل هذا الشوق الجارف في صدره، وحينما صارحها بذلك، اعترفت له أيضا بأنه كان في ذاكرتها شخصا مميزاً، وعلى حد تعبيرها (حاجة كدة.. انت فاهمني؟).
كانت في ذاكرته طفلة حلوة تلهو تحت المطر، تبني بيتاً من الرمل وتجري مبتلة الشعر، غابت عن ناظريه ردحاً من الزمان لعل (حبوبتها) كانت تخفيها كما قال الشاعر (في بطن المطامير) وحينما رآها بعد طول غياب وجدها وقد شبت عن الطوق، استوى عودها وعقلها ونضجت، أخذت من سنابل القمح لونها ومن أشجار النخيل شموخها وكبرياءها..
لازال يحدق من خلال النافذة، وذكريات المساء الوردي تداعب خياله، النيل والغروب غرامه الكبير، وهاهي تشاركه هذا الغرام، كانت الشمس على يساره وهو يقود سيارته بينما جلست هي كالقمر على يمينه، عيناها مثل نعاس نخيل الواحات تصمت برهة، تستمع كثيراً، وتتحدث قليلاً، وإذا أعجبها شيء في حديثه افتر ثغرها وبدت شفتاها كالكرز وأسنانها كاللؤلؤ المصقول، كانت تحرك لسانها بحركة لا إرادية بين الحين والآخر وينسجم ذلك تماماً مع ابتسامتها الأخاذة، اكتشف أنها أروع بكثير مما تخيل، تزن كلماتها جيدا قبل ان تنطق بها، واسعة الاطلاع وعلى درجة عالية من الثقافة والمعرفة.
كانت اللوحة قد اكتملت تماما، استحال النيل كما وجنتيها شفقا رائعاً، ومن حين لآخر كانت تحرك لسانها وتضحك في براءة الأطفال مطلقة العنان للؤلؤ المصقول ليبدو كالبرق في ليل ممطر، تحدثا في أمور شتى الموسيقى الشعر.. والعطر (عوالم رائعة تشبهها تماما) كانت المواضيع تتزاحم وتتشعب، توقفا كثيرا عند عثمان حسين و(أنا والنجم والمسا) وأشياء أخرى كثيرة مشتركة كونت وجدانهما، المكان يعبق بالدفء وحرارة الأنفاس والنجوى، رماد الذكرى يشتعل من جديد والبركة الساكنة في أعماقه تحركت مياهها الراكدة، وصوته الضائع زمناً في صحراء الصمت المنسية يعود إليه. يمضي الوقت سريعاً واللوحة الخالدة تتكرر، النيل والغروب والكلام الجميل.
هدأت محركات الطائرة بعد ان أخذت مسارها المقرر على ارتفاع ثلاث وثلاثين ألف قدم كان أفراد طاقم الضيافة الجوية يقطعون عليه صمته بين الفينة والأخرى، يقدمون له وجبة أو مشروباً، لكنه لم يكن يريد أكثر من الاسترسال في ذلك المساء وذاك اللقاء، كان يسترجع الشريط مرات ومرات، وفي كل مرة يتداعى أمامه شيء جديد، تستوقفه كلمة ما.. تثيره عبارة ما.. كان يكفيه ان يغمض عينيه ويتأمل طيفها الهياب وجمالها الآسر..
أجال ببصره في الأفق وردد مع صلاح عبدالصبور:
(سويعة، ويهبط السواد حين ينقضي الأصيل
فالشمس ألقت نظرة الوداع واتكأت مرهقة على التلال
وهكذا تمضي الحياة بي أعيش في انتظارهل...لحظة مشرقة في ظلمات الليل
أو... لحظة هادئة في غمرة النهار).
أطبق على يدها الناعمة كالحرير، نظر إليها.. كان وجهها قد اكتسى بشيء من الحزن، تمالك نفسه وحبس دمعة كادت تقفز وتحطم كل مظاهر القوة التي حاول ان يبدو بها لم تقو أن تقول شيئاً خانتها عبرة خانقة، وحينما دلفت إلى مدخل الدار استدارت نحوه كالبدر في ليلة تمامه رمقته بنظرة الوداع، بينما ردد هو في سره (دائماً تجد الإنسان الصح في الوقت الخطأ).

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved