بمناسبة يوم البيئة العالمي لابد من النظر مجددا الى الدور الهام الذي تلعبه البيئة في التنمية وفي تطوير الرفاهية في المجتمع. حصل النمو الاقصتادي في الماضي في الدول الغنية والفقيرة على حساب البيئة بمشتقاتها الارضية والمائية والهوائية، اي على حساب صحة الانسان ونوعية حياته. كما للتلوث البيئي اسباب اقتصادية حقيقية، فلمعالجة اضرار التلوث نتائج اقتصادية مهمة ايضا. تتوقف تكلفة التنظيف البيئي على اهدافه وعمقه، اي على مدى رغبة المجتمع في التنظيف. لذا يجب مقارنة فوائد التنظيف بتكلفته بهدف تحقيق المنافع الصافية الفضلى. لاشك ان الدول الصناعية تهتم بأوضاعها البيئية أكثر بكثير من الدول الناشئة والنامية يعود السبب الاساسي الى الوعي الشعبي والى الضغط الانتخابي الذي يمارسه البيئيون على السياسيين والحكومات. هنالك احزاب بيئية وصلت الى الحكم في بعض الدول الغربية كألمانيا وفرنسا وتقوم بتنفيذ سياساتها الخضراء. الدول الصناعية هي الملوثة الاولى في العالم في بيئتها وبيئة غيرها عبر شركاتها المتعددة الجنسيات، وتقع عليها بالتالي مهمة التنظيف البيئي. لا ننكر ان التطور الصناعي سمح بزيادة الانتاج دون زيادة التلوث بالنسب نفسها، بسبب فعالية المصافي الجديدة والتكنولوجيا الحديثة وبفضل اعتماد ضرائب وعقوبات متخصصة وصارمة. من المؤسف القول ان العديد من الدول النامية والناشئة ما زال يهمل اوضاعه البيئية ويعتبرها ثانوية، وبالتالي يقضي على مستقبل اجياله. ما زالت الدول العربية بحاجة الى زيادة وعيها البيئي كي لا تتحرك متأخرة، اي بعد ان يأكلها التلوث الناتج عن الانتاج النفطي خاصة والاهمال بصورة عامة.
لا يمكن لانسان اليوم ان يقبل ببيئة ملوثة او يعيش فيها. فكيف يمكننا تنشق الهواء الملوث وشرب المياه القذرة والعيش في مناطق لا شجر فيها؟ ان ضرر المطر الحمضي مثلا كبير جدا على الانسان والمزروعات والشجر والحيوانات والسيارات والمنشآت بمختلف انواعها. فنوعية الحياة اصبحت مهمة جدا ولا يمكن للانسان، فردا عاديا او مسؤولا، تجاهلها مهما كان الثمن. مشكلة البيئة ذات جزئين، اولهما ما العمل لتنقية الاجواء وتنظيف المياه وتشجير الغابات وغيرها؟ وثانيهما ما هي الوسائل العملية المخففة من زيادة التلوث؟ لتنظيف البيئة، تدل الارقام العالمية على ان تكلفة تخفيف 8 ملايين طن من التلوث تقدر بـ2 ،2 مليار دولار. اما تكلفة ازالة 10 او 12 مليون طن من المواد نفسها فهي تباعا 6 ،3 مليارات و3 ،9 مليارات دولار، مما يعكس ارتفاع التكلفة عندما يتعدى التنظيف حدودا معينة. هكذا يمكن تقييم التكلفة المتوسطة لكل طن بـ270 دولارا او 360 دولارا او 720 دولارا امريكيا تبعا لحجم وعمق عملية التنظيف. تكون التكلفة الحدية، اي تكلفة آخر طن منظف، 270 دولارا او 720 دولارا او 2775 دولارا تبعا لحجم التنظيف. من واجب اية حكومة تقييم منافع كل عملية تنظيف للبيئة ومقارنتها بالتكلفة. اما المنافع الصافية فتحتسب عبر طرح التكلفة من المنافع والتي تختلف من مجتمع لآخر ومن واقع تلوثي لآخر.
تدل كل الدراسات النظرية والتطبيقية على حتمية تدخل الدولة لحل مشكلة التلوث بكافة أنواعه، وهذا ما توصل اليه منذ عقود الحائز على جائزة نوبل لسنة 1991م الاقتصادي رونالد كوس Coase. قال كوس انه لن تكون هنالك حلول فضلى للتلوث اذا ترك الامر فقط للقطاع الخاص. يكون تدخل الدولة عبر سياسة مدروسة مناسبة تحترم الشروط الثلاثة، اي الفعالية والتكلفة المقبولة ويصلح تنفيذها ضمن الواقع السياسي والاداري المحلي. تضم هذه السياسة قواعد وقوانين واجراءات تفرض الالتزام بمقاييس فضلى معينة، كما تضم ضرائب تصاعدية تبعا لدرجة التلوث المقيمة بعدادات متخصصة. هنالك ايضا رخص يمكن تبادلها بين الملوثين، بحيث يبقى مستوى التلوث العام ثابتا. من الجوانب الاقتصادية الاساسية الواجب درسها، والتي لها انعكاسات سياسية، تأثير تكلفة التنظيف على الانتاج وبالتالي على التصدير. فمساهمة الشركات في تمويل التنظيف البيئي ترفع من تكلفة الانتاج، وتجعل بالتالي السلع المصدرة اقل تنافسية في الاسواق الدولية. من النتائج السلبية الممكنة تأثير التنظيف البيئي على انتاجية المصانع والشركات عندما توظف الكثير من مواردها في مكافحة التلوث بكافة اشكاله. واذا كان من المستحيل اقتصاديا وسياسيا تجاهل تكلفة التنظيف البيئي وتأثيره على عمل المؤسسات، فمن المستحيل ايضا تجاهل المنافع الاجتماعية للتنظيف والتي ربما تفوق اية تكلفة مادية. كما ان ادخال التكنولوجيات الانتاجية الحديثة غير الملوث يساهم مع الوقت في رفع انتاجية عمل الشركات، تماما كما حصل في مصانع السيارات نتيجة التشريعات البيئية التي فرضت حسن استهلاك الطاقة وتخفيف التلوث. نتج عن تنفيذ السياسات البيئية الوطنية انتاج سيارات وماكينات افضل مع تلوث اقل.
مهما كان النشاط الوطني لمكافحة التلوث قويا وشاملا، فلن ينجح كليا اذا لم تدخل كل الدول في اتفاقيات لهذا الغرض وتنفذها. هنالك اتفاقيات بيئية متعددة، الا ان اهمها اي كيوتو لم ينفذ بعد بسبب معارضة الولايات المتحدة. تقضي اتفاقية كيوتو، المرتبطة بتغيير المناخ، بتخفيض التلوث بين سنتي 2008 و 2012 بنسبة 2 ،5% عن مستوى سنة 1990م لا يمكن لهذه الاتفاقية ان تكون مفيدة اذا لم تلتزم بها الولايات المتحدة المسؤولة عن 36% من التلوث العالمي. نذكر ان هنالك اتفاقية اولية اساسية معروفة باتفاقية الامم المتحدة الايطارية بشأن تغيير المناخ والتي وقعت سنة 1992م من قبل 161 دولة وصدق عليها من قبل 50 بينها امريكا. طلبت هذه الاتفاقية، التي بدأ تنفيذها سنة 1994، من الدول المصدقة المساهمة في معالجة مشكلة التلوث تبعا لامكانياتها وبطرقها المختلفة. اما جولتها الثالثة التي عقدت في كيوتو في الفترة الواقعة بين 1 و 10/12/1997م، فحددت اهدافا واضحة قصيرة الاجل تلتزم بها فقط الدول الصناعية. اعترضت الولايات المتحدة على تكلفتها العالية المضرة بصناعتها، وعلى عدم شموليتها لدول اخرى تعتبرها امريكا ملوثة مستقبلا كالصين. المعروف ان الصين تنافس امريكا بقوة بل تحقق معها فائضا تجاريا سنويا يقدر بـ40 مليار دولار. لذا قررت امريكا عدم التصديق عليها بانتظار ادخال تعديلات مناسبة لها. من التعديلات علي اتفاقية كيوتو المتداولة دوليا والتي يمكن ان تزيد من فعاليتها نذكر:
أولا: شموليتها لكل الدول اذ ان الدول النامية والناشئة ستكون مسؤولة، في او قبل سنة 2015، عن اكثر من نصف التلوث العالمي. من اهم هذه الدول نذكر الصين والهند والبرازيل التي ستصبح دولا صناعية كبرى خلال العقد القادم. فاذا اعتمدت الدول النامية والناشئة منذ اليوم للتكنولوجيا الحديثة المخففة للتلوث، لنجح العالم اجمع في تحقيق اهدافه. الا ان المشكلة تكمن ايضا فيمن يدفع هذه التكلفة اذ ان اوضاع هذه الدول غير جيدة. من الممكن تأسيس صندوق لهذه الغاية ممول من الدول الغنية والمؤسسات الدولية يساعد الدول الفقيرة على تأسيس مجتمعات نظيفة بيئيا، مما ينعكس ايجابا عليها وعلى كل العالم.
ثانيا: احتواء الاتفاقية المعدلة لاهداف طموحة بعيدة المدى كتخفيض نسبة التلوث مثلا بـ15% قبل سنة 2040، وذلك نسبة لمستوى 1990م تسعى الدول المنضمة الى تحقيق الاهداف ضمن برامج مدروسة وبأدوات متخصصة مصممة لهذه الغاية. لا مانع من وضع اهداف متوسطة المدى تسعى الدول تدريجيا لتحقيقها.
ثالثا: من المفضل ان تسمح الاتفاقية المعدلة بالاستعمال المكثف لادوات السوق، كالرخص والضرائب او الاثنين. تشكل هذه الادوات حواجز فاعلة امام امتداد التلوث، اذ تعاقب الملوثين دون ان تقحم الدولة في عملية الرقابة. تكون هنالك رخص يتم تبادلها مجانا بين شركات القطاع الخاص او شراء غيرها من الدولة بأسعار باهظة تبعا لحجم التلوث. ما يدعو للتفاؤل هو الوعي العالمي المتزايد لخطر التلوث بالرغم من ان الجهود المبذولة ما زالت دون المستوى.
|