منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية، العالم معها في خندق واحد لمواجهة ما ألم بها، وبعد ساعات من وقوع تلك الحوادث، أعلن الرئيس الأمريكي، في أول رد له على تلك الأحداث، أن على العالم أن يختار إما أن يكون مع الولايات المتحدة في مواجهتها لهذا العدوان، وما لم يكن معنا فهو ضدنا ويتحمل تبعات ذلك.
وقد رأى عديد من دول العالم المهمة الفاعلة في الشأن الدولي، أن هذا التصريح إنما هو رد تلقائي لهول الصدمة، التي هزت أركان الأمن في أكبر دولة في العالم، وتصرفت هذه الدول على نحو مباشر في ادانة هذا العمل الذي وصف بأنه عمل ارهابي، راح ضحيته الاف الأنفس البريئة، التي سيقت إلى حتفها، وليس لها من ذنب، سوى أنها وقعت في دائرة هدف ينتمي لدولة مسؤولة عن حفظ التوازن الأمني في هذا العالم، وما من شك في أن جميع دول العالم ومواطنيها- حتى أولئك الذين لهم ثأر مع الولايات المتحدة الأمريكية- كانوا يتعاطفون مع الضحايا، لان هذا الذي حدث أصاب أهدافاً مدنية، أودى بحياة أعداد من البشر لا ذنب، لهم غير وجودهم في دولة لم تكن عادلة، حيث أساءت للتوازن المطلوب في العالم، وأخلت به لمصلحة أطراف على حساب أطراف أخرى، ولعل السؤال المهم الذي لم تطرحه الإدارة الأمريكية المسؤولة، أو تكون قد طرحته على نفسها هو: لماذا لم يقع هذا العدوان في عقد من عقود تاريخها، وتأتي فرضية السؤال على أساس أن تنامي المجابهة ينشأ كرد فعل لفعل ما حدث، ولاشك أن كثيرين في العالم، وعلى وجه الخصوص في العالم العربي والإسلامي، قد قفزت في أذهانهم وأمام أعينهم صور ذلك القتل، الذي تمارسه اسرائيل كل يوم بحق أهل الأرض في فلسطين، حيث تهدم المنازل على أهلها وتقتل الابرياء حيث يكون الهدف تصيد أحد رموز المقاومة.
لقد تصرفت الولايات المتحدة الأمريكية، في مواجهة هذا الحدث، الذي أحاق بها، من عدة فرضيات، لم تخل من هول الصدمة المفاجئة التي لم تكن تقدر حدوثها، حتى أن الرئيس الأمريكي «جورج بوش الابن» حينما بلغه النبأ لأول مرة وهو في زيارة لإحدى المدارس في ولاية «فلوريدا» وكان يلقي على طلابها درساً، لم يهتم على أساس أن الأمر لايعدو أن يكون خطأ فنياً من طيار يقود طائرة مدنية واصطدم ببناية عالية، لكن حينما بلغه نبأ الطائرة الأخرى التي اصطدمت بالبرج الثاني، هب مذعوراً ونسي كل اللحظات المحيطة وقال «لقد أعلنوا الحرب علينا، ولابد أن نذهب إلى قتالهم حيث يكونون» ومع تداعيات الموقف، وبعد ساعات لم يغب عليها نهار يومها، لايزال الرئيس يعزز حالة الحرب فيقول في اتصال مع وزير دفاعه «رامسفيلد»:«لابد أن تطلق العنان للقوات المسلحة».
وهكذا أطلقت إدارة أكبر قوة في العالم العنان لقواتها، فقامت بغزو أفغانستان، وكان مظهر هذه الحرب محفزاً للشفقة، حتى لدى أولئك الذين كانوا يتمنون تمزيق أشلاء هؤلاء الذين بدت صورهم في الإعلان الأمريكي أنهم «ارهابيون وأشرار» لقد كانت أحدث منتجات آلة الحرب من صواريخ وطائرات تحصد أرواح أناس بائسين، وتحرق خياماً وهياكل من المنازل، وأصبحت تكاليف الحرب تدعو إلى تساؤل المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس نفسه، كيف يتم التسليم بمبدأ إطلاق صاروخ يكلف آلاف الدولارات على خيمة لا قيمة لها، ووفق ما رواه «بوب وود وارد» في كتابه «حرب بوش أو بوش المحارب» يرى «رامسفيلد» المحرض الأول على الحرب، في عش الصقور في إدارة بوش الابن بعد قيام الحملة العسكرية بغزو أفغانستان:«لم تعد هناك أهداف نوجه إليها ضرباتنا، لإنه لم تكن في أفغانستان من الأصل أهداف تستحق الضرب، وكان رامسفيلد يناقش مع «كارل روفي» مستشار الرئيس للأمن الداخلي، مكاسب الحرب على أفغانستان، ولان رامسفيلد لم يكسب أي شيء من هذه الحرب، لأنها لم تحقق ذلك «الدوي» أو «الانفجار» الذي طالب به الرئيس كمعادل للانفجار الذي حدث داخل أمريكا، فسألة «روفي»: «إذن كيف نواصل هذه الحرب» فرد «رامسفيلد» :«رغم كل التبعات، لابد أن تتحرك» ثم يوضح كيف يمكن أن يتحرك، وفق رواية «بوب وود وارد».
«هناك نقطه سوف يتحتم علينا عندها أن نقوم بشيء ما في مكان آخر من العالم، مكان آخر غير أفغانستان، ذلك ما قلته وكررته، ومازلت أقوله وأكرره، لكن هناك من لا يريدون أن يسمعوا، لابد أن نوجه ضرباتنا بعد الآن إلى الدول الراعية للإرهاب، الدول الإرهابية.. العراق أولا- «صدام حسين» ليس له صديق في العالم يدافع عنه، حتى في روسيا وفي الصين، وهو رجل يصعب على أحد أن يقول كلمة طيبة في حقه.
ليس لدينا- على أي حال- نقص في قائمة هذه الدول: هناك إيران، سوريا، السودان، ليبيا، وبالطبع كوريا الشمالية».
ويعتبر كتاب «بوب وود وارد» من أهم الكتب التي ظهرت مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتأتي أهميته- فضلاً عن أن مؤلفه أحد ابرز الصحفيين الأمريكيين وهو مدير تحرير الواشنطن بوست- فإن هذا الكتاب قد تم تسريب مواده من ملفات المخابرات الامريكية طواعية وعمداً، لخلق توازن في الرأي العام الأمريكي الذي فاجأته أحداث سبتمبر 2001 بعدم التوازن، والتوجه إلى النخبة التي يهمها متابعة تفاصيل الحدث، ومن ثم يكون الكتاب رسالة أمريكية إلى العالم خارج الولايات المتحدة يخضعها في الانهماك في بؤرة الحدث.
إنها صناعة الحدث وردود فعل الحدث، وهي صناعة تجيدها أجهزة المخابرات الأمريكية بشكل متميز وفاعل.
ولذلك فإن «المحاضر» الأهم في اجتماعات، صناع القرار الأمريكي، سواء في مسألة غزو أفغانستان، أو في غزو العراق، قد طويت، وما تم تسريبه هو الخطاب الإعلامي، تلك «المانشيتات» الصحفية بألوانها المختلفة، حسب ما يراه رئيس التحرير، وينفذه «فني الماكيت» والأهم في كل ما جرى، هو التأكيد على هيئة الامبراطورية الامريكية،، واعادة تجديد صورتها، بعد أفول وانحلال الامبراطورية السوفيتية، وتحسباً لنهوض الامبراطورية الأوروبية القادمة، ورصداً مباشراً لأي محاولة لنهوض امبراطورية في الشرق الأقصي، وخصوصاً «الصين» أما «اليابان» فدواعي فهمها ميسور، من خلفيات تاريخية، لاتزال ترن في آذان اليابانيين أنفسهم، ودواعي فهم حقيقي «للمعجزة اليابانية» المنهمكة في ابداع ما يحتاجه سوق الاستهلاك البشري، وهو أمر يغري منافستها التقليدية «الصين» أن تحذو حذوها.
وفي كل ما جرى وما يجري، يفهم الجالسون في قاعات الاجتماعات في البيت الأبيض، حقيقة ما جرى لهم، وأسباب ذلك الحدث لهم، ولكنهم لا يتوجهون إلى تلك الأسباب، هم يرون أن بناء إمبراطوريتهم، لابد أن يتم في اخضاع تلك المناطق الصغيرة، التي وهبتها طبائع الجغرافيا وحقائق الواقع مصادر حيوية، تتحكم في قرار الامبراطورية الواحدة، وتؤثر في احتياج إمبراطوريات ناشئة، أوروبا واليابان والصين، لذا فإن إخضاع تلك «المناطق الواهبة» لاحتياج الامبراطورية، لحالة من عدم الاستقرار، هو أحد المتطلبات لدواعي الهيمنة والسيطرة عليها.
والمفهوم في كل دول العالم، وفي داخل الإدارة الأمريكية نفسها أنها«أي أمريكا» لم تكن عادلة في حفظ التوازن الأمني في العالم ومن هذا العالم منطقة الشرق الأوسط، التي تشكل منطقة حيوية لها ولدول العالم الأخرى، إن انحيازها المطلق وعلى مدى خمسين عاماً، بجانب إسرائيل قدد أضر بمصداقيتها في معالجة القضايا الدولية وتبنيها، بل إن هذا التوجه سيخضعها لمزيد من عدم الاستقرار، سواء داخل الولايات المتحدة، أو في المناطق الحيوية من هذا العالم التي تعتبرها ضمن مجالها الحيوي أو في داخل إسرائيل، التي كان زرعها في هذه المنطقة من أفدح أخطاء التاريخ الإنساني المعاصر، لقد أكسبت هذه الحكومة العنصرية التي تحتل فلسطين، صفة من أهم صفاتها، لاكبر دولة في العالم، فأصبحت الدولة الكبرى في العالم دولة عنصرية، وهو الخطر الذي نبه إليه الرئيس الأمريكي «بنيامين فرانكلين» عشية الاحتفال بإعلان الدستور الأمريكي عام 1789، ولم يكن قد مضى على استقلال أمريكا ثلاثة عشر عاماً، يقول الرئيس «فرانكلين» في خطابه:
«هناك خطر عظيم يهدد الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك الخطر هو «اليهودية».
أيها السادة: حيثما استقر اليهود، نجدهم يوهنون من عزيمة الشعب، ويزعزعون الخلق التجاري الشريف، إنهم كانوا حكومة داخل حكومة، وحيثما يجدون معارضة من أحد فإنهم يعملون على خنق الأمة مالياً كما حدث للبرتغال وإسبانيا.. ومنذ أكثر من 1700 سنة وهم يندبون مصيرهم.. لا لشيء إلا ادعاءهم أنهم طردوا من الوطن الأم.
ولكن تأكدوا أيها السادة أنه، إذا أعاد إليهم اليوم عالمنا المتمدين فلسطين.. فإنهم يجدون الكثير من المبررات لعدم العودة إليها أو الاكتفاء بها، لماذا؟ لأنهم مثل الطفيليات التي لا تعيش على نفسها، إنهم لا يستطيعون العيش فيما بينهم، إنه لابد أن يعيشوا بين المسيحيين وبين الآخرين الذين هم ليسوا من جنسهم.
إذا لم يمنع اليهود من الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بموجب الدستور.. في أقل من 100 سنة سوف يتدفقون على هذه البلاد بأعداد ضخمة تجعلهم يحكموننا ويدمروننا.. ويغيرون شكل الحكومة التي ضحينا وبذلنا لإقامتها دماءنا وحياتنا وأموالنا وحريتنا الفردية.
إذا لم يمنع اليهود من الهجرة فإنه لن يمضي أكثر من 200 سنة ليصبح أبناؤنا عمالاً في الحقول لتوفير الغذاء لليهود الذين يجلسون في البيوت المالية مرفهين يفركون أيديهم غبطة.
إني أحذركم أيها السادة، إذا لم تمنعوا اليهود من الهجرة إلى أمريكا.. إلى الأبد.. فسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبوركم.
إن عقليتهم تختلف عنا، حتى لو عاشوا بيننا عشرة أجيال فإن النمر لا يستطيع أن يغير جلده.
اليهود خطر على هذه البلاد وإذا سمح لهم بالدخول إليها فسوف يخربون دستورنا ومنشآتنا، يجب منعهم من الهجرة بموجب الدستور «مقدمة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون، وتعاليم التلمود، طبعة دار الفنون بيروت عام 2000».
هذه هي رؤية واحد من أهم بناة أمريكا قبل مائتين وأربعة عشر عاماً، وهذا هو خطابه، لكن الذي حدث بعد ذلك بسنوات، هو بروز تيار له ميوله الصهيونية ارتدى عباءة المحافظين، يتمسك بحرفية نصوص الإنجيل، في عهده القديم، وبينما هو بهذا المعنى يتصف بمنهج سلفيته، ينكر على أصحاب السلفيات الدينية الأخرى تمسكهم بسلفياتهم.
ومما يراه كاتب هذا الموضوع، أنه وفقاً لهذا الاستقرار السريع لنوايا الولايات المتحدة الامريكية ودوافعها، أن لا تنساق الدول العربية، في تبني هواجسها وخصوصاً ما يتعلق بنسق حياتنا وتطلعات أمتنا، وإلا لوقعنا أسرى فيما حذر منه رئيسهم «فرانكلين» في وقت مبكر.
لقد أصبحوا في ركاب هذه البؤرة الإسرائيلية اليهودية، كل منهما يخدم مصالح الآخر، ولا يصح للبلاد العربية التي تؤمن باستقلالها، وتميز خصوصيتها التاريخية الدالة عليها، أن تهيىء نفسها للاندماج في نسق ما تمليه عليها الإدارة الامريكية، أو أن تخضع لمطالب تسلبها هذه الحقوق، وبنفس القدر فإنه ليس لهذه الدول أن تجعل من الولايات المتحدة مدى حيوياً تفرض فيه ما تشاء من مطالب، إن الاحترام المتبادل لخصوصيات الأمم والشعوب هو العنوان الأمثل لعلاقات مثلى.
لم تكن البلاد العربية تعرف سمات هذا التطرف، والإرهاب إلا حينما اشتد أوار التدخل الأمريكي في الشؤون العربية، وانحيازها في مواجهة هذا الذي يتعسف كل يوم بالشعب الفلسطيني، ويقتل أطفاله صباح مساء ويهدم منازل الأسر والأحياء بكاملها، وها هي حينما تعرضت في الحادي عشر من سبتمبر 2001، لإعتداء، استهدف أهدافاً انتقائية، جردت أساطيلها وطائراتها، لغزو العالم فما بالها بعدو يهدم كل يوم قرى بكاملها ويحصد أرواح الأطفال والنساء، ثم ها هي تطالب العالم بإعادة نسق الحياة في هذا العالم وفقاً لتصوراتها، لا يمكن لهذه القوة أن تتصور في يوم من الايام أن يصبح هذا العالم الحافل بالتنوع البشري، الحافل بثقافاته ودياناته، مجرد رعايا في الامبراطورية الأمريكية، أو أن يتحمل العالم وزر أخطاء سياساتها.
ولذلك، فمن المهم، في حمأة الاجتياح الأمريكي للمنطقة، أن تكون جميع مشاريع الإصلاح وتطوير أنساق الأداء في منظومة هياكل الحكم في البلاد العربية، نابعة من اقتناع وطني له خصوصيته، لا يقتلع جذور الثوابت في حياة هذه الأمة، وإلا لقي هذا التوجه معارضة ومواجهة ممن يؤمنون بهذا التوجه الوطني، لإنه سيصبح من وجهة نظر هؤلاء المعارضين أنه معطى أمريكي واستجابة لفرضيات هيمنة القوة الخارجية المسيطرة.
|