أمريكا أصبحت من الجيران. كانت دولة «سائحة» فأصبحت دولة مقيمة، وشتَّان بين معاملة «السائح» ومعاملة «المقيم».
* لم تعد امريكا تتمتع بالزيارات الخاطفة مع وشنطة ملابس خفيفة، وفندق خمس نجوم، وزيارة الشواطىء الجميلة، والأماكن السياحية المثيرة، ومطاعم الوجبات السريعة، وتكتفي بكتابة سريعة مختزلة، على «البُوست كارْد».
* شنطة الملابس تحولت إلى «كونتينر» مليء بمستلزمات الإقامة الطويلة، وفندق الخمس نجوم تحوَّل إلى قصْر شامخ بأسوار عالية، وحراسة مشدَّدة، وافراد العائلة جميعاً، أو معظمهم، وصلوا ولابد لهم من «فان» وسائق، ومقاض يومية من السوق، ومدارس، ومستشفيات، وتسلية وترفيه، ومطبخ كبير، وخدَم، وحَشَمْ، و«البوسْت كارْد» تحوَّل إلى تقارير طويلة، ودراسات مستفيضة.
* وعندما تقرر أن تنتقل إلى «جوار» بعيد للإقامة فيه فلا مناص من ان تصبح جزءاً من هذا الجوار، تتخلق ببعض أخلاقه، وتخوض مشاكله، وتتعرض لضجيجه، وتتلطخ بأوحاله، خاصَّة وأنك اخترت هذا المكان بكامل حريتك ومع سبق الاصرار والترصُّد.
* عندما غضب بعض الأميركيين النافذين على تسمية بعض الفضائيات العربية للأحداث الأخيرة، بالحرب «على» العراق بدلاً من الحرْب «في» العراق علمتُ بأن الأميركيين قد وصلوا حقاً، وأن «فيروس» اللفظ المختلف عليه، و«العبارة» التي نتحارب بسببها قد أصابهم.
* يغضبون لأننا نسمي الغزو احتلالاً، وليس تحريراً، والمظاهرات الغاضبة احتجاجاً ديموقراطياً، وليس غوغائية وفوضى. ووصلت الحساسية الفائضة إلى مشارف حروف الفتح والضم، وبلغت حتى إلى «التَّماحُك» حول حروف الجر نفسها، بين «في» و«على».
* وكان الأمريكان، يرسلون النصائح، والتوجيهات عن بُعد، وبرسائل الهاتف الجوَّال، فأصبحوا جيرانا يجب عليهم حضور اجتماعات «الجيران» والمناداة من النوافذ، على بائع الخضار، والمعاناة من مشاكل الصرف الصحي، ونقص المياه، وشركات النظافة وطوابير الغذاء والدواء، وخناقات أولاد الجيران.
* أصبح الأمريكيون يتحدثون بلغة قريبة نفهمها، فالديموقراطية مشروع مؤجَّل قليلاً، لأن العراقيين لم ينضجوا بعد والانتخابات يجب ان تصنع نتائج مقبولة، ومرضية، وبمواصفات معينة، والتدخل في الشؤون الداخلية للجيران اعلامياً واستخبارياً أمر عادي، والإعلام الموجَّه، عادةٌ لا بأس بها، وتزوير الحقائق، او حجبها، او نفيها موضوع لا غبار عليه.
* أمريكا جاءت الى «الحارة» منتصرة، مزهوَّة رافعة الرأس، شامخة الأنف، ليست على استعداد للاستماع الى النصائح، او قبول المشورة وهي مقتنعة حتى النخاع، انها تقوم بعمل طيب وبنوايا حسنة ولغايات نبيلة.
* وإذا وافقناهم على ذلك مجاملةً فيجب ألاَّ ننسى أن نقول لهم بأننا تعلمنا منهم، حِكَماً تقول بأنه ليس ثمة عمل طيب يمر دون عقاب، وأن النوايا الحسَنة طريق مَسَفلت، يقود إلى الكوارث، وليس هناك غداء مجاني بل الثمن مدفوع بطريقة أو أخرى.
* سوف نراقب تصرفات الجيران الجُدُد ب «لَكْنة» أميركية ونستمتع إلى «لُورَنس» الجديد، بالعقال والكوفية، ونقوم بواجبات الضيافة ب «المفاطيح» والقهوة، والشاي وننتظر قرار الجار الكبير الجديد: هل يطلب الجنسية، أو يطلب تأشيرة خروج بلا عوْدة بعد ان يصيبه السَّأم والانهاك من مشاكل الحارَة وأولادها ويهرع إلى رحيل سريع، تاركاً المكان مُبعثر الأشياء والأشخاص مُشرع الأبواب، والنوافذ ومن غير ان يعطي الجيران الطيبين فرصة تنظيم حفل وداع محترم.
|