والسواد الأعظم، المتهافت على المصطلحات، دون فهم دقيق لجذورها الفلسفية، ودون تحفظ على حواضنها الفكرية، يمنون بالفشل الذريع. والغرباء الأقل عدداً، والأخفت صوتاً، يأخذون حذرهم، فيفرقون بين المفاهيم والمرجعيات والمبادئ والإجراءات، ويضبطون إيقاع التحولات والتناقضات، وإن اتحدت المسميات. ف(الديمقراطية) الغربية تختلف عن (الديمقراطية) الشرقية. و(ديمقراطية) الإجراء تختلف عن (ديمقراطية) المبدأ. والمغرمون بتداولهم لها يعرضون مبادئهم للمداهنة، والمناوئون يغرقون في المجادلة في غياب البصيرة، معرضين أنفسهم للتجهيل وفقد المصداقية. ولو أن الأطراف وعت المصطلحات حق وعيها، لاتخذت منها مواقف مدعومة بالمعرفة ومحكومة بالقسطاس المستقيم. و(المتأدلجون) مع المبادئ والمذاهب غير المتفاعلين معها دونما صيرورة عقدية، والأدعياء غير الأولياء، والقابلية غير المغالبة. والمتهافتون لا يكتفون بمشاركة الأمة في صياغة الدستور، بل يؤكدون على أن الشعب مصدر السلطات: التشريعية والتنفيذية، والموائمون منهم يقولون: - «إن صوت الشعب هو صوت الله). والمحاورون يدخلون في لجج من الرؤى والتصورات، ولما يُعدوا للجدل عدته، وتلك سجية يمنى بها المهتاجون العزل. ولأن (الديمقراطية) حمالة أوجه، فقد تتسع للشيء ونقيضه، فالاشتراكيون يرون التماس الحكومي مع كثير من أحوال الشعوب جزءاً من (الديمقراطية)، فيما لا يراه الغربيون الذين يعتمدون الاقتصاد الحر، وما ظاهرة الخصخصة للشركات والمؤسسات إلا سبيل من سبل العولمة الناسلة من عباءة (الديمقراطية)، فهي تحجيم لسلطة الدولة بمفهومها القديم، وبداية لعزلها عن التدخل المباشر والشامل. ومع هذه التجربة، نجد أن (العمالة) تطالب بعودة الحكومة إلى الساحة، لتفك الاشتباك بينها وبين رأس المال المستأثر بالفائدة. فالحكومة مع كل التحولات ضرورية، وضبط سلطتها ضروري أيضاً، والغوغاء المنتخبون يعانقون الرافضين للسلطة، ويحسبون أنها تغيب مع قيام (الديمقراطية) ولما يعرفوا أنها لون من ألوان السلطة، وأن الحرية المنضبطة لا يحققها إلا القوة والعدل.
و(الديمقراطية) بوصفها غربية الممارسة، (يونانية) الانتماء، وضعية الاعتقاد، أخذها الشيوعيون بمفهوم آخر، بحيث أطلقوا عليها (الديمقراطيات الشعبية) وقيادة الحزب الشيوعي لسياسة الدولة يعني إجهاض المدلول الغربي. وقد أخذت بعض دول العالم الثالث المنتمية للكتلة الشرقية بهذا المفهوم (الدكتاتوري) الاستبدادي التسلطي، المعتمد على العنف والدموية، ولهذا لم يكتب للشيوعية البقاء، وكل نظام يتخذ الظلم والتسلط شرعة ومنهاجاً مآله إلى الانهيار. وقد جاء في القرآن {وّمّا كّانّ رّبٍَكّ لٌيٍهًلٌكّ القٍرّى" بٌظٍلًمُ وّأّهًلٍهّا مٍصًلٌحٍونّ}، ولم يقل «صالحون»، ومعنى هذا: أن الله لا يهلك القرية المشركة، وأهلها يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم، وهو ظلم، ظلماً آخر. والذين اتخذوا الماركسية من دول العالم الثالث أوغلوا في الدموية، ومن أراد الاطمئنان، فليستعد التاريخ الحديث، وبخاصة ما يتعلق بالصدامات الحزبية في (عدن) قبل الوحدة، وفي (العراق) إبان الوجبة الأولى من الثورات مستعرضاً إجابات (إبراهيم الداود) جريدة (الحياة من 9 إلى 12/1424هـ). لقد أضاف الشيوعيون العرب أسلوباً همجياً وروحاً تدميرية، فكان ان استحقوا عذاب الله، وأخذه العزيز المقتدر، إذ لم يكونوا صالحين ولا مصلحين. ومن نشد الإصلاح والأخذ بمعطيات الحضارة، فليس هناك ما يمنع من المواءمة، وبخاصة من جانب المستفيد، إذ من الممكن تحويل (الديمقراطية) من (الأدلجة) إلى الإجرائية، وليس شرطاً الأخذ بها على أنها (ايديولوجية) ذلك أن سيادة القانون، وقيم الحرية والعدالة معطيات متعددة المرجعيات، فالفكر السياسي الإسلامي يتسع لما تتسع له (الديمقراطية)، ومن الممكن الاستفادة من إجراءاتها وتنظيمات ذويها. وكل مذهبية أو حزبية أو طائفية أو عرقية تتعصب لواحدية الانتماء تقضي على وجودها الحسي والمعنوي، والقول بمحورية واحدة مع تعددية المتمحورين رؤية مفتوحة، تحتاج إلى ضابط، تتحدد معه المرجعية والهوية والانتماء.
وفقاعة (الديمقراطية) تعشي (زرقاء اليمامة)، ففي كتاب (من فقة الدولة في الإسلام) (للقرضاوي) إيماءة عازمة لمشروعية الاقتباس من (الديمقراطية): - (لتحقيق العدل والشورى، واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض) - على حد قوله -. وما أشار إليه من عدل وشورى واحترام لحقوق الإنسان إنما هو بعض مضامين الفكر السياسي الإسلامي، والأخذ بشيء من ذلك أخذ من مقاصد الإسلام، وليس أخذاً من (الديمقراطية)، فحد (الديمقراطية) أن يكون الشعب مصدر التشريعات والسلطات، فيما هو في الإسلام منفذ السلطات، وعليه اختيار الطرق والوسائل والنظم الملائمة للمرحلة المعاشة، وكنت أود لو أنه - وهو العالم الضليع - قال بالاستفادة من التنظيمات والتشكيلات والإجراءات الحديثة. فالعدل مطلب إسلامي، ولكن كيف يتحقق، ما الإجراءات السديدة التي يتحقق بها العدل، فالتنظيمات والإجراءات هي مكمن الاختلاف المشروع لا الخلاف المحظور. فمن الأنظمة من تحققه بطريقة بطيئة مكلفة، ومنها من تحققه بأسلوب سريع وغير مكلف، وكلما جدت طرق وأساليب، وجب الأخذ بأحسنها، وأيسرها على الأمة، لأنها ضالة المؤمن، وما لا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، ويقال مثل ذلك فيما يتعلق (بحقوق الإنسان) القائمة على (المساواة) و(الحق) و(الحرية) ولكلَّ محورٍ مجالاته. واللغط حول الحقوق كثيرة. والإسلام ضمن الحقوق للإنسان والحيوان وخشاش الأرض، وهل من رحمة تعدل مثوبة (مومس) سقت (كلباً)، وتعذيب امرأة حبست (هرة)، والحقوق كما يراها الغرب، تختلف عنها في الإسلام، وليس من الممكن مسايرة الخطاب الغربي، ذلك أن للمسلمين حضارتهم، وللغرب حضارته، وإذا قلنا بالإسلام، وجب أن يكون خطابنا إسلامياً. لقد ساد القول بالحق منذ التصورات الذهنية (للقانون الطبيعي) قبل الميلاد، حتى (توماس الأكويني ت 1274)، على أن الفكرة لم يسلّم لها الكافة، بل هوجمت من قبل (فقهاء الألمان) وجاء من بعدها مصطلح (مبادئ العدالة). ف(العقد الاجتماعي) وانتهاء ب(حقوق الإنسان) المعلن عن 1948م، متضمناً: (المساواة) بمجالاتها الستة، و(حقوق الذات)، و(الحياة)، و(الحريات): - حرية التفكير، والضمير، والدين، والرأي، والتعبير، والسياسة. والذين قالوا بالحق الفردي، نسوا أو تناسوا حق الشعوب في تقرير المصير، وحقها في ثرواتها ومواردها، وحقها الثقافي والاجتماعي، وهي حقوق معطلة من قبل حماة الحقوق على حد: - (وقتل شعب آمن قضية فيها نظر).
والإسلام الذي حدد الحقوق والواجبات، ترك أسلوب توفيرها لأهل الحل والعقد، فقد تكون عن طريق المؤسسات الرسمية، أو عن طريق المنظمات الشعبية، المهم أن يتوفر الإنسان على حقوقه المشروعة، وهنا نعود إلى مصدرية الحق: أهو الوحي أم العقل، أم الإرث أم العرف، أم هي معاً؟. وما لا شك فيه أن (الديمقراطية) معطى عقلي، اكتسب مشروعيته من العقل المستبد، وكل الحضارات الوضعية وغيرها تتوخى الأفضل، وتستثمر ما سلف من حضارات، ويبقى الإسلام من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. ومع أنه من عند الله، فقد تقاطع مع كل الحضارات، والتقى معها في كثير من مبادئها. وإذ تكون هناك مساحات مشتركة، فإن من الحصافة أن يستغلها الخطاب الإسلامي، لتهدئة الأمور، والجنوح إلى السلام. والعقلانية المستبدة كغيرها من مصادر التشريعات الوضعية، ليست بريئة في منجزها، إذ هي محصلة تراكمات حضارية، لهذا كان بالإمكان أسلمة العقلانية، والأسلمة تعني الرد إلى الله والرسول، وربط كل المكتسب التجريبي والتنظيمي بالمقتضى الإسلامي، وليس هناك ما يمنع من الاستعانة ب(العقل) و(الإرث) و(العرف)، متى لم يخالف شيء منها (نصاً) قطعي الدلالة والثبوت. ولقد ذهب البعض إلى أنه لا معنى (للديمقراطية) ولا (للعلمانية) في ظل الإسلام، إذ هما مطلوبتان في ظل حضارات تفتقر لمثليهما. فالعلمانية تخليص من سلطة (الكنيسة) المتجمدة وتسلط (الكهنوتية) المستغلة، وليس في الإسلام سلطة كنسية ولا كهنوتية متسلطة، ذلك أن نظامه السياسي شوري اجتهادي وتطوري مرن، يحيل إلى العقل والتفكير، والبر ما اطمأنت إليه النفس، وحديث (استفت قلبك) تفويض مضبوط بالمقاصد، والكليات الإسلامية.
والذين نفوا وجود نظام سياسي إسلامي صالح، لم يكن لديهم استعداد للقراءة البريئة والتأمل العميق، كما لم يفهموا بعد مقتضيات ذلك الفكر ومقاصده، وتصوراتهم الخاطئة أردتهم. نجد ذلك عند (علي عبدالرازق) وعند سائر العلمانيين والماركسيين من بعده، وبخاصة (محمد سعيد العشماوي) الذي أوغل في الطعن في الخلافة والحكومة والحكم والتشريع الإسلامي، وتصور الحكومة الدينية كما يتصورها الغرب. وفي ذلك مسايرة غبية للغربيين المنكرين لفكرة وجود مبادئ للدولة في الإسلام، و نصوص الشريعة متضمنة لمبادئ السياسة وقواعد العلاقات التي لها أبعادها العالمية والإنسانية وضوابطها للعلاقات الدولية في حالة السلم والحرب. على أن طائفة من المستشرقين أشادوا بالقيم السياسية في الإسلام من مثل (شاخت) و(نللينو) و(ستروتمان) و(ماكدنونالد) و(جب) وغير أولئك كثير. ومن مختلف التصورات فإن الإسلام يركز على النتائج، تاركاً الأساليب للظروف، ومن ثم فإن تحكيم الشرع، وإظهار الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهوض بأمر الدعوة، تمثل مقتضيات الفكر السياسي الإسلامي. وكيف لا تكون في الإسلام مبادئ سياسية، والله أنزل الكتاب بالحق والميزان، ليقوم الناس بالقسط، و(صحيفة المدينة) إن لم تثبت سنداً فقد ثبتت متنا، وبهذا تعد منتجاً مبكراً للوثائق والدساتير.
و(الثيوقراطية) مصطلح سياسي، يجري عليه من الاختلاف وتباين وجهات النظر ما يجري على مصطلح (الديمقراطية). وبالجملة فإن مقتضياته تتأدى على أساس عقدي ديني، وإذ تستمد (الديمقراطية) سلطتها من الرؤية والتصور الشعبي، فإن (الثيوقراطية) تستمد سلطتها من الدين، وكل متحدث عن هذا المصطلح يربطه بمصطلحات أخرى ك(الحق الإلهي) و(ولاية الفقيه) و(الحكومة الدينية) على مختلف تصوراتها، وإذ تدخل هذه المفاهيم في المصطلح أو لا تدخل، فإنه لا يُلزم بها الفكر السياسي الإسلامي، فالحكومة الدينية أو المدنية يحتويها الإسلام، ولا تحتويه، وتعرف به، ولا يعرف بها، وإخفاق التطبيق لا يتحمله المبدأ.
إذاً هناك معادلة ثنائية:
(الديمقراطية) تعتبر الشعب مصدر: التشريع والسلطة.
(الثيوقراطية) تعتبر الله مصدر التشريع، والشعب مصدر السلطة.
والإشكالية في فهم المقتضيات، وصياغة المفردات والحقوق والواجبات. والمقولات بأن (الحاكم بمثابة ظل الله على الأرض) أو مقولة ب(أنه مفوض من السماء) أو أنه (يستمد مقوماته من المشيئة الإلهية) مقولات فيها تعميم. وهي إطلاقات المعادل المناوئ. وحتى القول بمطلقية (الحق الشعبي) أو (الحق الإلهي) في الممارسات التطبيقية للمصطلحين المتناقضين قول فيه أقوال. وعلينا قبل الدخول في المعادل الإشارة إلى أن الإسلام ليس ديناً شعائرياً (ميتا فيزيقياً) فحسب، الإسلام دين ودولة، شرعة ومنهاج، علاقة بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوق والمخلوق بكل أنواعه، حتى بين البهيمة الجماء وذات القرون. وبهذه الدقة والشمولية والرأفة والثبات يختلف الإسلام عن الديانات المحرفة. وإذا أخفقت (الكنيسة) في إفراز نظام سياسي، فإن الإسلام قادر على طرح مشروعه السياسي المستوعب لكل متطلبات إنسان العصر (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، والأصوليون يختلفون في مفهوم عدم التفريط، و(للشاطبي) رأي وسط في (موافقاته).
والمصداقية تقتضي أن نقول: إن هناك أشكالاً وأنظمة في الحكم الوضعي عادلة وناجحة، ولكن ذويها لا يرجون من الله ما يرجوه المسلمون عند إقامة العدل، وتحقيق النجاح واستعمار الأرض، والإحسان إلى الناس كافة. وبعض المسلمين بالاسم نفوا إسلامهم، وابتغوا حكم الجاهلية ادعاءً لا امتثالاً {وّمّنً أّحًسّنٍ مٌنّ اللّهٌ حٍكًمْا}. وهذا التذبذب بين الإسلامية و(الديمقراطية) التبست معه الأمور، وأخفقت فيه النتائج، فإذا وصف (الديمقراطية) حاكم مثل (ابراهام لنكولن) وقال: - (بأنها حكم الشعب بالشعب وللشعب) فإن مقولته هذه صادقة، لأن (الديمقراطية) عنده تمثل مقاصدها المكتوبة، وليس هناك رئيس يستطيع أن يحرف شيئاً من ذلك، ولا أن يتعالى فوق القانون، ولكن إذا قالها (ثوري عربي) فإن في المسألة أكثر من نظر. إذاً هناك كلمات تطلق هنا وهناك، فتكون في مكان حرية نابضة، وفي آخر شكلية فارغة.
ومما لا مراء فيه أن المشهد الفكري العربي يمر بحالة من الاضطراب المخل بأهلية التصدي للمتداول: تنظيراً أو ممارسةً، رؤيةً أو واقعاً. وكل المحاولات التوفيقية أو التلفيقية أو الإحلالية فشلت في إيقاف هذا التدهور والإبقاء على ثمالة الوفاق، إن كان ثمة رسيس يبل الصدى. والذي أسهم في تعميق الترديات صراع الانتماءات الشكلية، بل صراع الذات مع نفسها. فهناك: القومي، والبعثي، والعلماني، والشيوعي، والناصري، والإخواني، والقطري، والقبلي، والطائفي، وكل خطاب يكيد للآخر، ويتربص به الدوائر، وهذه الصراعات المستحرة تغذيها قوى خارجية، وليست في جملتها منتجاً وطنياً، بحيث يمكن التوفيق بين وجهات النظر. لقد كان الصراع في الخمسينيات والستينيات وشطر من السبعينيات ثنائياً: - يسارياً أو يمينياً. وكل خطاب يتوسل بالقومية، بوصفها القاسم المشترك، وبعد تراجع اليسار وانهيار القومية، صعد خطاب إسلامي متعدد المفاهيم والتصورات والحدِّيات، وأحسبه الخطاب الأكثر تعميقاً للصراع، لأنه الخصم التاريخي المتحفظ على كل الخطابات، والمتحفظ عليه من كل الخطابات، ولهذا لا يجوز أن يكون مشاعاً ولا مستباحاً لكل من قدر على القول، أو رغب في الانتهاز، ولكي يطرح المشروع الإسلامي نفسه كما أراده الله، فلا بد من الدخول في المؤسسات كافة، والخروج بخطاب موحد، يصالح ولا يصادم، ويبادل ولا ينابذ، ويفرق بين اختلاف الاجتهاد وخلاف المبادئ والمرجعيات.
|