أرجو من الشباب عدم المؤاخذة، هذه المرة سوف أمدح الماضي. سوف أنضم للذين يتباكون على الأيام القديمة. يوم كان الناس عيال حلال، الرجال يسافر بالشهر والشهرين ويترك عياله برعاية الجيران. والمرأة تذبح الذبيحة وتسلخها للضيوف قبل ما يجي رجلها. واللاعب ما يحب الفلوس، يأتي على بسكليت للملعب. والبقر تدر لبناً قليل الكلسترول. يوم كان كل شيء ممتازاً.
ينقسم الماضي بالنسبة لي إلى مرحلتين: مرحلة المصريين وهذه هي سنوات التكوين، السنوات الأولى من تعليمي. والمرحلة الثانية عندما جاء إخواننا المدرسون من الأردن. أنا سعيد جداً أن سنوات تعليمي الأولى كانت على يد مصريين. على يدهم أحببت الدراسة، فلولا المصريون كان يمكن أن أكون الآن قهوجياً في بيت أحدكم وإلا راعي مبسط في سوق الخضار. لأن السنوات اللاحقة في الابتدائي والمتوسط بدأنا نتعلَّم على أيادي إخواننا الفلسطينيين والأردنيين. وهؤلاء الله يذكرهم بالخير يديهم حارة على خدودنا الصغيرة الممشقة. لا يتحملون الخطأ. يطبقون علينا مثلهم الشهير: (أيدوه وما تعطي)، فعلا كانت أياديهم البيضاء تنفق بسخاء على وجوهنا الكالحة. لا يمكن أن أنسى الأستاذ وليد، في أحد الصباحات الشتوية، كان الجو قارساً إلى درجة أن بقايا مياه الأمطار شبه متجمدة، تخشخش تحت أقدامنا المتخشبة. كان يقف عند الباب في انتظار المتأخرين. كنت نحيفاً ورقبتي طويلة مثل رقبة الحاقول. أتنافض من البرد، أسير منحنياً متداخلاً في نفسي أبحث عن الدفء في انكماشتي. كنت أعتقد أن مسكنتي سوف تنقذني. لا أعرف ما حصل أحسست أن تيارا كهربائيا صعقني لأنني وجدت نفسي بعد ثوان داخل الفصل. لا أتذكر كيف طلعت مع الدرج ولا أتذكر كيف استأذنت أستاذ (الدواء) للدخول إلى الفصل ولا أعرف كيف فتحت كتاب الأناشيد وبدأت أنشد على زملائي (سل صفحة الأيام، تنبئك عن إقدامي. واسأل جميع الناس عن عزمتي وباسي. مجاهد صنديد مقاتل عنيد). لم تكن هذه القصيدة متناسبة أبدا مع ما حدث عند الباب. فكما قصَّ علي أحد زملائي في الفسحة. خبطني الأستاذ وليد أولاً على علباي وعندما استدرت نحوه لأشرح له لم أكن أعرف أنني كنت أهيئ خدي الأسمر الشاحب ليده البيضاء المعطاء: وقبل أن أقول (الله يرحم والديك) كان قد سبقني فبرمني كفاً استدرت على أثره ودخلت ثالثة باء مع أني كنت طالباً في خامسة جيم. ولكي يذكرني بفصلي يقال إنه لحقني وانتزعني من ثالثة باء دون أي اكتراث لمدرس الفصل وعندما أخرجني رفسني بشوتة على مؤخرتي ثم خبطني مرة أخرى على علباي الذي أصبح مكشوفا هذه المرة بعد أن تبعثرت غترتي وطاقيتي وقبعي. ثم سحبني إلى أن بلغت الدرج ولم يحررني من قبضته العروبية إلا بعد أن عالجني بكف يمكن أن أعتبره تلخيصاً تذكيرياً لكل ما جرى لجسدي. دخلت فصلي وأنا أترنح.
والحق يقال نسيت البرد نهائياً. استقبلني أستاذ العربي السوداني ولم يحقق في ترنحي فقد سبقني أكثر من طالب على هذه الحالة. لا أعرف ما الذي حلَّ بالأستاذ وليد الآن ربما مات أو ربما تحوَّل إلى مقاول، أو أنه الآن في الأردن يقضي بقايا حياة بائسة. أتمنى أن أراه الآن لأنتقم منه باستعراض نجاحاتي في الحياة على مسامعه.
كنت أنوي أن أحدثكم عن أيام المصريين العظيمة في طفولتي. ولكن الأستاذ وليد لم يسمح لي.
فاكس: 4702164
|