نعم للحجارة صوت.. وللصهيل أصداء.. ولكن متى؟!
حين يتحدث الحجر بلغة المقاومة.. وحين يرجع صوت الصهيل وسط غبار لا يعترف بالهزيمة ولا التراجع.. سمعنا صوت الحجر كأجمل ما تكون الموسيقى بيد أطفال الحجارة.. يقذفون بها دون خوف في وجه الدبابة.. كما لو أن ايقاعها ايقاع ربابة.. أما الجياد.. وصهيلها فلم اسمعه.. كل الذي تناهى الى سمعي صوت عويل لا صهيل ماتت بين تجاويفه، إرادة ما كان لها أن تموت لو أنها استرجعت بعضا من كرامتها.. وبعضا من تاريخها.. وبعضا من بعض كبريائها..
للشاعر الصديق كلمته.. أي حجارة يعني؟ وأي صهيل يقصد؟
خارج إطار العنوان.. بعيداً عن الرمي والجري كان عناقه مع أمه..
«يميتني صوتك الأشجى، ويحييني
يا جنة من رحيق الحب تشفيني
تشنجت في جحيم العجز أوردتي
وشرشر الحزن في نبضي.. وتكويني».
يسترسل في مقطوعته. في معزوفته الجميلة متعاملاً مع همه وشجنه متفاعلاً مع شتات دربه. متعاملاً ولكن بخشية مع المشاهد الشيطانية.. والسرابية مناشدا احب الناس الى قلبه ألا تتركه للهم.. وألا تدعه فريسة للغم.. وللشكوى التي تغشيه.. وكأنما مسالك الحياة أمامه وعرة وموحشة.. أنه يستصرخها:
«يا واحة في خريف العمر تهتف بي
انداؤها ضوعت بالماء والطين
وذكريات تسامت في تراكمها
ومدلجات السها والسهد واسيني».
لا نعرف لماذا المواساة.. «ولا كل هذه المخاطر.. ربما آثر أن يتركها دفينة داخل نفسه إلا من أمه التي استنجد بها ولجأ الى صدرها لأنها دون سواها طوق نجاته من عضة ملماته السر ما زال غائباً..
الحجارة بدأ ايقاع ضرباتها يشنف الاسماع هكذا يوحي العنوان «الحجارة وسام الشهادة. وسام الفرح»:
«أشعلوا فينا القصائد
كل جرح فيكموا أيها الأبطال شاهد
قاتلوا عنا.. فما فينا فدائي مجاهد
إننا محض جلامد..
نحتسي الذل. ولا نفتأ نرتاد الموائد
قاتلوا عنا.. وموتوا
إنمانحن اليتامى. والثكالى. والقواعد».
لغة جسورة في خطاب الوعي المعذب المتقلب المتأرجح بين جماليات الصورة.. وضبابيتها.. بين نشوة من يقارعون بأجسادهم الصغيرة العارية آلة الموت دون خشية.. وبين قتامة الصمت في حياة الذين يكتفون بالفرجة.. او الهمهمة التي تذوب في مرجل الانكسار والانتظار..
«كل شبر في ربانا - في حمى الأعداء - شاهد
جاهدوا عنا.. نشاهد..
علمونا كيف يغلي الحجر الناري من سمو السواعد»
ويمضي شاعرنا الحميد في معزوفته الحماسية كمن يلقي محاضرة عن الحياة أمام أجساد لا حياة فيها.. وينتهي به المطاف الى قطاف حر مغلق بورق سوداوي من شجرة خريفية عارية كتب على جدار جذعها:
لقد اسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولأنه شاعر مرهف الحس آثر هذه المرة ان يعزف لنا على أوتار الخطأ.. عن أي خطأ يتحدث؟!
«في طريق الخطأ.. نصبوا لي مجزرة
حولوها مقبرة..
في طريق الخطأ شتتونا زمرا
أخرجونا في العراء..
سفكوا الدم البراء. قتلوا الأنبياء»
لم يترك لنا فرصة التأمل ولا التفكير كي نعرف ماهية الخطأ الذي يتحدث عنه.. بل عاجلنا:
«كل شرخ فوق اشلاء جراحاتي خطأ
لم يعد يصرعني عنف النبأ..»
لماذا لأنه الممزق على جادة طريقه يلتهمه حريق المذلة والهوان.. بل أكثر من هذا لأنه الوغد العصفيق.. مهما ايها الصديق النار لا يطفئ لهيبها إلا ماء الاحرار الذين تتملكهم إرادة الشجاعة وإرادة حركة الانتصار ذودوا عن قيمهم.. وتراثهم.. وترابهم.. وانسانهم.. بعيون مفتوحة تكشف المخاطر.. وتردم المقابر.
ومن بكائية مجزرته ومقبرته يبعدنا قليلاً الى فرح طالما انتظرناه على احر من الشوق والشوك معا.. يوم أن سقط كاهانا.. ذلك الحاخام العنصري الدموي.
«وانتفضت اوردة الحاخام
وكشر في وجه التاريخ العربي. وهام
وتولى.. يرفض. ينفض. يبغي
وتمادت مهزلة الحاخام على جرحي
كم عزفت أوتار الحاخام في اشلائي من انغام»
سرد دافئ املته فرحة ما سيأتي.. وقبل أن ألج الى بوابة الفرحة اشير الى ملاحظة عابرة تختص بشطره الأخير وهو يتحدث عن معزوفة أوتارحاخامه.. الأنسب ان تأتي على اشلائه لا فيها.. هكذا احسب.. ولأن الحاخام مازال ينفش ريش زهوة وساديته ونازيته رفضا للحل. قتلا للأطفال كغيره من مجرمي الحرب وعتاتها راح يطرح الأسئلة تلو الأسئلة:
«من يمنح ميثير وسام الرفض؟
من يفتح في افق الحاخام نوافذ للاقناع؟
ويفتل مجدول النقض
من يردي صوت الوغد برصاص الفصل؟
فلقد اوغل في الهتك. واخطاه النصل
واسترسل في شبق الحقد وتسفيه الأحلام»
تساؤلات وجدت جوابها من طلقة جسورة اخترقت صدره من بندقية فدائي كانت النهاية لحياة ارهابي.
«الصالة» تركتها مغلقة بقفل لا املك له مفتاحاً ولا ارتياحا.. و«صربيا. سربنتشا التشرد والنزوح» مفرداتها مشردة على غير عادة شاعرنا تطل منها لغة المباشرة وكثافة المفردات التي تؤدي الى مفهوم واحد.. ادعها لشاعرنا الكريم إذ مارغب ضبط حركتها الشعرية ولملمة اطرافها من واقع مقدرته الشعرية التي لا اشك فيها..
«صدى الصهيل» النصف الثاني لعنوان ديوانه «وقد فرغنا من نصفه الأول» «صوت الحجارة»
«من كهف قام الهمام عنترة
واسرج الخيل. والخيال.. والشجون
وامتشق الحسام. ونفض الزرود. والدروع.
وطاف في المضارب الغريبة المزورة»
هذا ما يمكن ان يتصور لمن طالت به غفوة الكهف سنين وسنين.. ثم تعبث من جديد ليطوف فيما حوله بعيون ملؤها الغرابة والدهشة.. ولكن كهف عنترة غير كهف أهل الكهف.. عنترة همه حصانه. وسرج حصانه.. وعبلة وجدانه.. ونخوة انسانه.. انه مشوق.. ومشوش الذهن..
«يبحث عن معادن الرجال. والخيل والبغال
يسأل الناس عن الديار. والاطلال.
عن فارس نامت عيون الأرض وهو لا ينام
يبحث عن ملامح الفخر. والوفاء. والسلام»
كل ما يلقاه على دربه كلاب تنبح. واسود تزأر. ومضارب دون حدود. ووجود دون وجود.. آثر ان يلقيه خلفه ليعود من جديد الى مرارة بؤسه ويأسه سائلاً دون اجابة عن آثار عبس وكليب.. عالمه غير عالمه واناسه غيرناسه.. لم تجده فتيلاً وقفته العنترية على اطلال بني عبس كما حاول شاعرنا ان يمد من أمد رحلته التي استغرقها بحثا عن حلم ضائع.. كل حصادها استرجاع لذكريات طواها الزمن ولم يبق لها مشاهد وشواهد اكثر من حيرة وحسرة على لبن مسكوب لا يمكن استرجاعه.. وعاؤه بقي فارغا..
أمر على «بوحه» مرور الكرام.. واحط في محطة هواجس ذلك الغريب المعنى.. استقرئ سطورها:
«على ما يرام.. على ما يرام..
نشيد.. شربناه قبل الفطام
عبرنا الزوايا.. وجرنا السقام
وذقنا المجاعة.. والجوع سام»
ضروب من المعاناة لا تنتهي في رحلة شاعرنا لم تسعفنا ببسمة ثانية نسترجع معها انفاسنا.. وكأنما الأفق الشعوري لديه خميرة ألم لا مكان فيها لأمل.. دمعة عذره فهو يطرح لنا تجربة حياتية انسانية تتسع باتساع آفاق الخيال الشعري الموسوم بالقلق.. والمحكوم بتشاؤمية النظرة وسوداويتها في عالم الحب فيه يندحر تحت ركام الحرب.. لهذا لم نستكثر على شاعرنا في ديوانه تراكم المفردات الحزينة الأطلال «القبور» «القحط» «القفر العميق» «الصحراء التي تضيق وتكاد تتحول الى كهف تلفه وحشة الصمت ووحدة المكان والسكان.. ناهيك عن سرابية الصور الخادعة وما تفضي إليه من خيبة أمل وفشل..
«هواجس موظف غريب» تجربة تحكي موقف موظف صغير أمام رئيسه. كيف يتعامل معه.. وبأي وجه يقابله..
«ان قدم التماسه لحضرة المدير
اشاح وجهه..
وجه المدير فجأة قد امتقع
وامتشق الحسام من مكتب أمامه
ووقع البدع
كأنما الموظف المسكين قد ابتدع
او حاك ما يحوكه ضرابة الودع
اوصدت الأبواب نحوه
وكل شيء في شأن شأنه امتنع
قيل له: دعواك وفق المتبع».
سرد لبعض الجوانب السلبية في حياة علاقات البعض ببعضهم يواجه الوجه الآخر الأكثر نصيبا وحظاً حين يركب موجة المديح والنفاق لمن يرأسه..
«لو اصطنع. ونافق المدير. والرئيس
واصفياء المجتمع
دون التماس يرتفع
وان أتى او انقطع
فعذره مبرر. وعتبه قد ارتفع
وامره ميسر. وترقيات مثله
تسير عكس المتبع»
صياغة انشائية تعبّر صورة اجتماعية لاتكاد تخلو منها مجتمعات عالمنا النامي تحكمها العلاقات والصداقات.. وددت لو ان شاعرنا أحسن صياغتها صورة واطارا وهو القادر على ذلك..
في مقطوعته تلك وهو يعدد المساوئ المنسبة لمن لا مساوئ يؤاخذ عليها جملة «عتبه قد ارتفع»..
وارتفاع العتب اتساع مداه وظهوره.. والصحيح «عتبه قد رفع» أي طوي ونسي..
شاعرنا الحميد بجميل مشاعره ينقلنا من مسيرة الى أخرى.. ومن صورة الى أخرى.. تارة نحلق معها به.. واخرى لا نقوى عن البعد كثيراً لأن الاجنحة لم يكتمل ريشها بعد.. هذا ما لمسته في بعض قصائده.. وايضا في قصائد جل الشعراء ان لم اقل كلهم وانا واحد منهم.. تارة ننفعل وتأتي الصورة أكثر اشراقاً..
واخرى نفعتل فتبدو في تركيبتها وفي بنائها الشعري أكثر اخفاقا.
ثم ان شاعرنا الغالي اختار تقطيع اوصال شعره.. الشطر الواحد يتحول الى عدة اشطر ربما لاستغراق مساحة الصفحة.. وهو ما لا أؤيده لأنه يؤثر على تركيبة الشطر الايقاعية والموسيقية ويحوله الى مجرد مقاطع نثرية متناثرة..
بحسابات الرحلة والمساحة الزمنية لاستغراقها لم اجد البد من اجتزاء البعض والمرور عليها مرور الكرام.. «هواجس من ذاكرة الحزن والفجيعة». «تخيلات على صفحة سراب» «عيد وبشائر» «فأمامنا محطة غير عادية تملأ القهقهة فضاءها. والقهقهة لغة ذات ابواب.. واحيانا ذات انياب.. تماماً كالضحك الذي يُبكي.. والبكاء الذي يضحك.
ماذا عن قهقهة شاعرنا المجيد عبدالله الحميد؟!
«الآن تفر.. تزمجر.. تقتحم الأجواء
ترتاد الصحو.. وتخترق سراديب الغيم
تفتض الضحكات الهزلية
نمتد.. نثرثر..
نغرق في لفظ القهقة الثرثارة
اقلعت الطيارة!!»
يبدو ان شاعرنا في رحلة.. أهي رحلة سفر؟ ام ان طيارته ذاتها محورالحديث الذي سيكشف عنه:
«يحملنا هذا الطير الفولاذي خفافاً
يحملنا مثل الأطفال. الانعام. الاشياء الأخرى!!»
مشكلة.. بل مأساة ان يتساوى الركاب في حسابات الوزن دون تمييز بين من يملك العقل ومن لا عقل له.. لهذا فإن القهقهة ظلت سيد الموقف.. لأن الحديث ذو شجون..! انظروا كيف يفكرون وعلى ماذا ينظرون لمن وهبهم مثل هذا البساط السحري العلمي الفسيح. والمريح وماذا يقولون في احاديثهم وهم يتطلعون عن بعد الى الأرض التي تبدو صغيرة أمام عيونهم.. وفي أحلامهم وعقولهم ايضاً:
«سخره الله ليخدمنا ذاك النذل الغدار
فدعوه يفكر عنا
يصنع كل رواحل راحتنا
الطيارة. السيارة.
يبتكرون صنوف الفتنة والايثار»
حكاية التنابلة الذين يأسرهم الترف المادي والتبلد الذهني.. عقول معطلة تقتات على فتات ما يصنعه غيرهم. هكذا جاء رسم الصورة الشعرية.. واخالها صورة منتزعة من زمن لا مكان له في عالم العلم والعولمة.. ان وجدت.
«أغلى من الحب» مسك الختام لشاعرنا.. وهل هناك اغلى واحلى درجة من الحب..؟
«تشتتني الدنيا وتصفعني الشكوى
فأصمد للبلوى.. والجأ للنجوى
ويخفق في صدري شعور مجنح
يخاطب عبدالله فيك الذي اهوى
فما أنت إلا النبل نبضا وهاجسا
تمازجه في الخير عاطفة اقوى»
ايا كان المقصود بهذا الحب فلقد اجاد شاعرنا الحميد وامتعنا برحلته.. وبروحه..وبشعره.. بل وبعذاباته العذبة.